كلما وقع ديكتاتور، في اي مكان في العالم، في أزمة وأصبح في موقف حرج أمام شعبه وبدأ العد التنازلي لسقوطه يسارع الكريملين للدفاع عنه بحجة أنه يدافع عن الشرعية وسيادة الدولة أمام الضغوطات الخارجية التي تريد تغيير النظام بالقوة أو بطرق “الثورات الملونة” عن طريق تهييج الشارع ضد الحاكم. وكأن الأمر حقيقة هو هكذا! وهكذا فعلت موسكو مع ثورات الربيع العربي حيث كان موقفها بالاساس داعما لكل الانظمة الشمولية العربية وبرز ذلك بشكل صارخ في سوريا. وهذا موقفها من فنزويلا وايران وكوريا الشمالية وكوبا.ولا يوجد في الاستراتيجية الروسية في التعامل مع الدول الاخرى، اي اعتبار لإرادة الشعوب وكفاحها من اجل حقوقها وحرياتها لأن الحرية والديمقراطية والكرامة عند الكريملين تفسر بالعكس تماما فكل من ينادي بالحرية هو تابع لاجندة غربية مثلما يفعل النظام السوري البعثي الاسدي في تعامله مع المعارضين السلميين ويتهمهم لمجرد النقد والمطالبة بالاصلاح بأنهم يساهمون في وهن الامة واضعاف الشعور القومي والعمالة للأجنبي وغيرها من المصطلحات التي لا يعرف احد كيف يمكن تفسيرها، لكننا نعرف نتائجها وهي اعتقال اصحاب الرأي الآخر وايداعهم في السجن لفترات طويلة.اوكرانيا فلتت من أيدي الكريملين ونجح الانقلاب واصبحت كييف-(عاصمة أوكرانيا) مستقلة عن موسكو. واليوم نشهد احداثا ساخنة في بيلاروسيا (روسيا البيضاء) بطلها الشعب البيلاروسي ضد رئيس قبض على الحكم منذ 26 سنة وهو يريد الاستمرار. وعلى سؤال له ماذا يمكن ان تعمل لو خرجت من الرئاسة أجاب لوكاشينكو: لا اعرف اعمل شيئ سوى أن أكون رئيساً. لقد خلقت لأكون رئيساً!!!اجريت الانتخابات الرئاسية في 9 آب/أغسطس الحالي وقبلها قام الرئيس لوكاشينكو كعادته باعتقال ابرز المرشحين من المعارضة ومنهم المرشح الموالي لروسيا فيكتور بابيريكو بحجة الفساد وكذلك وضع المدون المعروف المرضح للرئاسة في السجن وهرب المرشح الاخر فيكتور تسيبكالو الى خارج بيلاروسيا. وبقيت سفيتلانا تيخانتوفسكايا الشابة زوجة المدون قيد الاعتقال الذي كان مرشحا للرئاسة ايضا، وتقدمت للترشيح واصبحت مرشحة المعارضة البيلاروسية.وهناك توقعات شبه مؤكدة على فوز مرشحة المعارضة بنسبة لا تقل عن 60% ولكن نتائج الانتخابات الرسمية اعلنت كالآتي: 81 % للرئيس الحالي لوكاشينكو وحوالي 10% لمرشحة المعارضة. ويفيد مراقبون ان بعض المرتكز الانتخابية احصوا عدد المؤيدين للمعارض من خلال ارتدائهم شريط ابيض على ايديهم فكانوا اكثر من الف والبقية يعدون بالمئات وعند اعلان النتائج كانت عدد البطاقات المؤيدة للوكاشينكو اكثر من 1000 ولسفيتلانا مئات الأصوات فقط.وبدأت مظاهرات حاشدة وصل عددها في يوم واحد الى اكثر من 200 الف شخص، وهي تستمر لليوم التاسع على التوالي منادية باعادة الانتخابات ورحيل لوكاشينكو . وكان رد الشرطة وقوات الامن الخاصة في المدن الصغيرة عدم التعرض باذى للمحتجين بينما ركز لوكاشينكو كل قوته في العاصمة مينسك وحشد حوالي 1500 وهم جميع عناصر الوقات الخاصة في بلد ييقترب عدد سكانها من 5 مليون انسان. وتتهم السلطات البلياروسية ليتوانيا وبولندا واوكرانيا بأنهم يقفون وراء الاحتجاجات في بيلاروسيا.والمشكلة في بيلاروسيا أن 80% من الصناعة بيد الدولة وهي تنتج حوالي نصف الناتج المحلي الاجمالي ويعمل في تلك المؤسسات الصناعية نصف سكان البلاد القادرين على العمل. وتصدر الى روسيا 50% من املنتجات الصناعية.أي أن الوضع السياسي والاقتصادي في بيلاروسيا يذكرنا بالاتحاد السوفيتي حيث يوجد حد أدنى من مستوى المعيشة ولكن نوعية الحياة ومستواها ضعيف، بالاضافة الى غياب الحريات المدنية والسياسية. كما أن لوكاشينكو سحق المعارضة ولم يسمح لها بممارسة السياسة. وحسب بعض الاحصائيات فإن ربع السكان يؤيدون لوكاشينكو وربعهم يؤيدون المعارضة اي ضد ل النظام السياسي القائم اما 50% من السكان فهم غير مسيسين ويمثلون الشريحة الرمادية.ونذكر فاليري تسيبكالو الدبلوماسي السابق الذي أسس حديقة التقنيات واصبح يروج للابداع التكنولوجي والتقني الحديث. وله قول مهم يميز النظام في بيلاروسيا: لو كان ستيف جوبس في بيلاروسيا لاتهموه بقضية جنائية وادخلوه السجن على نشاطه العلمي والتكنولوجي.وقد شهدت بيلاروسيا احتجاجات كبيرة عام 2010 على ضوء الازمة الاقتصادية في اوروبا وروسيا وانهيار اسعار النفط والتقارب البيلاروسي الاوروبي. واضطر لوكاشينكو للتراجع قليلا أمام المعارضة، ولكنه سرعان ما سلط كل بطشه ضد المعارضة من جديد. وهذا يذكرنا بربيع دمشق وبشارا لاسد.وتتلقى بيلاروسيا مساعدات وتسهيلات اقتصادية كبيرة في شراء النفط والغاز الروسي وتصدير المنتجات الصناعية والغذائية لروسيا وتحصل على قروض لا تقل عن 10 مليارات دولار.زهز يشبه بشارا لاسد في اكثر من موقف. مثلا تعامل مع جائحة كورونا بلا مسؤولية واعتبر انه لا توجد ضرورة لاجراء العزل الصحي لوقاية الناس بالاضافة الى انه اعلن عام 2019 قانون الضريبة على الكسالى (العاطلين عن العمل). فاثار القراران استياءا بين الشباب البيلاروسي.وقد تركت الكورونا اثرا سلبيا كبيرا على الاقتصاد البيلاروسي لتراجع التصدير وخاصة للاسواق الروسية.الموقف الروسي والدولي:اتسمت العلاقات الروسية البيلاروسية بالصعود والهبوط. فمنذ 1996 عقد البلدان اتفاقية تأسيس دولة اتحادية ولكن الرئيس البيلاروسي يماطل ويتهرب من دمج الدولتين لخوفه من ابتلاع روسيا لبيلاروسيا سياسا واقتصاديا وعسكريا. وبالمناسبة فالعلاقات على مستوى الشعبين عادية جيدة.ولطالما بروت أزمات تتعلق بالنفط والغاز وآخرها كان منذ اشهر عندما اضطرت موسكو لتعويض مينسك عن خسائرها بسبب الضرائب التي فرضتها موسكو على تصدير النفط. ودائما يلوح لوكاشينكو بالتوجه للغرب عندما يريد ابتزاز روسيا وبالفعل بعد ان خضعت مينسك لعقوبات غربية كبيرة وحصار سياسي واقتصادي واصفيه لوكاشينكو بأنه آخر ديكتاتور في أوروبا، فإن العلاقات بدأت بالتحسن منذ 2019 ورفعت العقوبات وبدأت الوفود الغربية بما فيها الأمريكية ، السياسية والاقتصادية والعسكرية تتالى على مينسك بدأت مخاوف موسكو من خسارة بيلاروسيا. علما ان هناك مناورات عسكرية دورية بين روسيا وبيلاروسيا تجري في أراضي البلدين. وهناك تصريحات عديدة للوكاشينكو بأن الشعب الروسي هو الأخر الاكبر ولا يمكن ان يسمح بالحاق ضرر بروسيا عبر بيلاروسيا.ولكنه لم يعترف مثلا بضم القرم لروسيا وينتقد سياسات بوتين وتدخل سفرائه في شؤون بيلاروسيا ويشتكي من تدخل الشركات النفطية والمصارف الروسية وضغطها على مينسك لبيع مصرفها المركزي وشركتها النفطية لموسكو.وفي عام 2014 حذر لوكاشينكو البيلاروسيين من خطر الجار الشرقي (يقصد روسيا) بعد ان تدخلت في أوكرانيا وضمت القرم بقوة السلاح. كما أن لوكاشينكو لم يعترف باستقلال جمهوريتي ابخازيا واوسيتيا الجنوبية عن جورجيا حتى اليوم.وقبيل الانتخابات الاخيرة قامت السلطات البيلاروسية باعتقال 33 شخصا قادمين من روسيا (من اصل 200 لم يقبض الا على 33 منهم) اتهمهم لوكاشينكو بانهم قدموا للقيام بعمليات ارهابية وتخريبية وانهم من مجموعة فاغنر التابعة لطباخ الكريملين (بريغوجين). فاستنفرت موسكو وبعث الرئيس بوتين رسالة من 5 صفحات يوضح فيها الموقف ويطلب اطلاق سراح المعتقلين الروس. كما أن السطات البيلاروسية اعتقلت عددا من الصحفيين الروس وناشطي المجتمع المدني وتعرض بعضهم للعنف والضرب من قبل اجهزة الامن والشرطة.ويقول محللون روس أن مهمة هؤلاء العناصر من الشركات الامنية الروسية هو حماية نظام لوكاشينكو اما الزحف الشعبي مدعوما من الخارج والذي قد يسقط لوكاشينكو وعندها تصبح بيلاروسيا – اوكرانيا رقم2، لأن المعارضة ليست ودية تجاه موسكو وانما توجهها اوروبي.ويجدر الذكر أن بومبيو زار مينسك في شهر شباط/فبراير الماضي وقال للرئيس البيلاروسي: لا تقلق سنساعد بيلاروس … وسنوفر النفط بسعر تنافسي”، أما لوكاشينكو فوصف اللقاء مع بومبيو بأنه كان تبادلا وديًا للآراء. وحينها اعلن لوكاشينكو “انتهت فترة البرود في العلاقات البيلاروسية الأمريكية”.وبعد ان اشتدت الضغوطات الدولية الاوروبية و الامريكية والتي لم تعترف بالانتخابات ووصفتها بأنها ليست نزيهة وان هناك قمع للمواطنين وتقييد حريات، فقد ارتعب لوكاشينكو حيث بدأت اكبر المصانع البيلاروسية، التي يعمل فيها عشرات الالاف من العمال، بالاضراب ، عندها بدأ العد العكسي لحكم لوكاشينكو. حتى أن قوات الامن ومنهم مسؤولون امنيون سابقون صرحوا بأن العنف والقمع ضد المتظاهرين لا مبرر له وأن الدماء قد تسيل وخاصة بعد مقتل احد المتظاهرين المدنيين السلميين. وهناك عدد من ضباط الأمن والشرطة استقالوا من العمل احتجاجا على القمع الوحشي للمدنيين . وقد وجه لوكاشينكو اتهامات سمعناها في سوريا وليبيا وغيرها من الدول التي شهدت ثورات ضد الديكتاتورية بأن الذين خرجوا الى الشارع هم زعران وعاطلين عن العمل ومرتزقة ومدنين ومجرمين علما ان مئات الاف الناس خرجوا للشارع . وهذا يذكرنا بتهم الاسد وعصابته للمحتجين السوريين حيث قال مرة انهم يقبضون الفين ليرة على المظاهرة واغلبهم مدمنين وخريجين سجون!!!وبعد اعلان النتائج كان الرئيسان الروسيو اتلصيني اول المهنئين وانضم اليهم لاحقا بشار الأسد.والمفارقة أن لوكاشينكو اتصل ببوتين مرتين خلال 15 و16 الشهر الحالي وادلى بتصريحات تظهر ان بوتين وعده بالدفاع عنه ضد اي تدخل او ضغوطات خارجية وقالها بوتين بنفسه سوف نحل كل المشاكل في بيلاروسيا وأعلن الكريملين أن الجانب الروسي أبدى في الاتصال استعداده للإسهام على نحو ملزم في تسوية المشاكل القائمة في بيلاروس بناء على أسس مبادئ اتفاقية إنشاء دولة الاتحاد وعند الضرورة ضمن إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم عددا من جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً. وبالنتيجة تم الاتفاق على رد الدولتين بشكل مشترك على أي تصعيد متعلق بتهديدات خارجية.أما لوكاشينكو فصرح أنه لم يسمح بعزل روسيا واستطاع تجميع حشد من املتظاهرين لأول مرة في بيلاروسيا بعد اكثر من اسبوع من اعلان نتائج الانتخابات الرئاسية واستمرار التظاهرات المناوئة له، والقى فيهم كلمة قال: انني مستعد ان اركع امامكم وشكرا لدعمكم!ولا بد ان نذكر أن الديكتاتور لوكاشينكو كانت له علاقات ودية مع نظام الاسد المجرم وسبق ان قدم له مساعدات وتبادل الزيارات كبار المسؤولين ومنهم وزراء الخارجية في البلدين. ويعتقد ان بيلاروسيا استقبلت افرادا من عائلة مخلوف ولديهم استثمارات ومصالح اقتصادية وتجارية فيها.