العقيد عبد الجبار عكيدي
ما من شك بأن التفكير في أي جانب من جوانب العلاقة بين إيران ونظام دمشق سوف يقتضي – حكماً – التفكير فيما يشبه الأسس الناظمة لتلك العلاقة والتي باتت أقرب إلى المبادئ (ما فوق دستورية) إن جاز التشبيه، ونعني بذلك الأسس العضوية التي ارتقت بالعلاقة بين الطرفين من المستوى البروتوكولي، وكذلك من مستوى المصالح المتبادلة، إلى المستوى المصيري الذي يجعل مسار العلاقة بينهما ذا طابع وجودي يتجاوز حسابات المصالح الجزئية.وبناء على هذا المفهوم من الارتباط المصيري بين طهران ودمشق يمكن فهم النزوع الإيراني نحو الاحتواء الكلّي للدولة السورية باعتبارها المحافظة الخامسة والثلاثين، وليس باعتبارها دولة صديقة أو حليفاً استراتيجياً.
ولكن عضوية العلاقة أو مسارها المصيري لا يمكن أن يكون عاصماً أبديّاً لها من التصدّع أو التشظّي، ليس لأن أحد طرفي العلاقة يرغب في ذلك، بل بحكم تناقض المصالح، ولا نعني بالمصالح المتناقضة تلك التي تتعلق بالاقتصاد أو ازدياد النفوذ أو شيئاً من ذلك، بل ما نعنيه هو المصلحة ذات الصلة المباشرة بالمصير، أي باستمرار الوجود أو عدمه، إذ يمكننا بقليل من التشخيص رؤية أن إيران قد أخلصت لنظام الأسد بكل ما تملك من دعم سياسي وعسكري واقتصادي، وبالتالي ساهمت – إلى جانب روسيا – بالحفاظ على بقاء نظام دمشق واستمراره حتى الآن.
بشار الأسد بالأصل لا يهدف إلى الابتعاد عن إيران، ولكن في الوقت ذاته لا يستطيع الحفاظ على العلاقة بكامل زخمها، بل ربما أصبح في لحظة ما فاقد القدرة على تلبية مصالح متناقضة لأكثر من طرف.
كما استطاعت طهران أن تتحكّم في مسار العلاقة مع الأسد باعتبارها الطرف الأقوى من جهة، وكذلك باعتبارها صاحبة القرار في توجيه مصالحها من جهة أخرى، في حين أن بشار الأسد كان الطرف الأضعف من جهتين أساسيتين: فهو ليس صاحب القرار في التحكم بمصير نظامه أولاً، بل إن مصيره تتنازعه إرادات ومصالح ثلاثة أطراف ( روسيا – إسرائيل – إيران )، والأمر الثاني هو أنه غير قادر على توجيه وإدارة مصالحه من دون الرجوع إلى الأوصياء عليه، ولعل هذه المعادلة غير المتكافئة بين طبيعة نظامَي طهران ودمشق هي ما تفتح باب الاختراقات لإحداث شروخ في العلاقة، مع التأكيد الدائم أن بشار الأسد بالأصل لا يهدف إلى الابتعاد عن إيران، ولكن في الوقت ذاته لا يستطيع الحفاظ على العلاقة بكامل زخمها، بل ربما أصبح في لحظة ما فاقد القدرة على تلبية مصالح متناقضة لأكثر من طرف، ولعل هذا بالفعل ما وضع الأسد في حرج بالغ حيال التصعيد المتبادل في الأشهر القليلة الماضية بين إسرائيل وإيران، علماً أن إيران أبدت استعداداً وتفهّماً كبيرَين لسلوك الأسد الذي فُرض عليه، فيما يخص نأْيَه الكامل عن حرب غزة، والتزامه الكامل بالتحذيرات الإسرائيلية من عواقب أي مساهمة أو تسهيلات لأي عملية عسكرية تستهدف إسرائيل انطلاقاً من الأراضي السورية، وقد زاد التزام الأسد على ذلك بأنه لم يسمح حتى لأي مظاهرة تناصر غزة في مناطق سيطرته، ولكن ما حدث في الأول من نيسان الماضي يبدو أنه تجاوز جميع أطر التفاهمات السابقة، ونعني بذلك استهداف إسرائيل لقنصلية إيران بدمشق، وقتل مجموعة وازنة من المسؤولين الإيرانيين، الأمر الذي أوقد شرارة الشك الإيراني داخل بنية نظام الأسد، مما أعاد الحديث مجدّداً عن تيارات وأجنحة وجماعات داخل قوات الأسد، مناوئة لإيران، وأخرى محسوبة عليها، ولعل الإرهاصات الفعلية للمناكفات بين مؤيدي إيران والمناهضين لهم بدت بالظهور، وبعيداً عن التكهّن بمدى ديمومة تلك المناكفات أو استشراف مآلاتها، يمكن الإشارة إلى مستجدات عديدة لعل أهمها:
1 – تزامن إعلان رئاسة الجمهورية في نظام الأسد عن مرض أسماء الأخرس (زوجة بشار)، وإقصائها عن أي تَعاطٍ بقضايا الشأن العام، مع موت الرئيس الإيراني، وبالتالي امتناع بشار الأسد عن تأدية واجب العزاء من خلال حضوره شخصياً، والاكتفاء بإرسال ممثلين عنه، في حين كان من المفترض أن يكون الأسد أول الحاضرين نظراً للطبيعة العضوية أو المصيرية بين الأسد وإيران، فهل يُعدّ الإعلان عن مرض أسماء عذراً كافياً لعدم ذهاب الأسد إلى إيران؟ أم إن عدم حضوره شخصياً كان قراراً سابقاً للإعلان عن مرض زوجته؟
2 – إن عزل أسماء الأسد عن التعاطي مع الشأن العام، يعني – وفقاً لكثيرين – رضوخاً لإرادة تيار آخر يتزعمه ماهر الأسد، قائد أقوى فرقة عسكرية في جيش النظام، وأكثر الشخصيات العسكرية ذات النزوع الإيراني داخل منظومة السلطة، أضف إلى ذلك ما أعلن عنه ماهر الأسد نفسه من خلال بيان انتشر على وسائل التواصل يشير إلى عدم السماح لأي جهة قضائية أو تنفيذية بمساءلة أيٍّ من أعضاء الفرقة الرابعة إلا من خلال أمر صادر عن الجهات المسؤولة عن الفرقة ذاتها، ما يعني لكثيرين أن قرار ماهر الأسد هو تجسيد لنزاع داخل قوى السلطة بين نفوذ إيران ومناهضيه.
3 – كما تجب الإشارة إلى تفاقم الشكوك الإيرانية حول دور شخصيات أو قوى داخل نظام الأسد في المسؤولية عن الوشاية برجالات إيران في سوريا لإسرائيل، ما جعل طهران تتخذ عدة خطوات أسهمت في تعليق العديد من الفعاليات الخاصة بها في سوريا، منها ما هو عسكري، ومنها ما هو اقتصادي.
التوتر بين دمشق وطهران سببه الإلحاح الإيراني المتزايد من أجل الديون المترتبة على نظام الأسد، الذي توقف بدوره عن منح الشركات الإيرانية مزيداً من الاستثمارات أو أصول الدولة.
فحسب المعلومات المتوفرة، أبلغت إيران بشار الأسد بوقف التنسيق مع الأمن العسكري بخصوص تأمين ضباطها والقادة المبتعثين من قبلها إلى سوريا، بعد أن استبدلت كثيراً من القادة الرئيسين بأسماء غير مهمة وليست معروفة لأجهزة المخابرات الخارجية.
أما على الصعيد الاقتصادي فإن التوتر بين دمشق وطهران سببه الإلحاح الإيراني المتزايد من أجل الديون المترتبة على نظام الأسد، الذي توقف بدوره عن منح الشركات الإيرانية مزيداً من الاستثمارات أو أصول الدولة تجنباً لاستثارة الدول العربية وروسيا، الأمر الذي يثير حفيظة الإيرانيين بلا شك، رغم محاولات بشار تطمينهم بشكل مباشر أو غير مباشر أنها مجرد إجراءات مؤقتة يفترض أن تكون مفهومة، لكن طهران لا تثق بالنهاية بهذه التطمينات على ما يبدو.
خلاصة:
مهما تعاظم شأن علاقة الأسد بإيران فإن هذا التعاظم يمكن أن يتعرض للتصدّع، لا لخيار أسدي، بل لعدم قدرة بشار الأسد على إقامة توازن بعيد الأمدِ بين مصالح إيران من جهة، ومصالح إسرائيل التي يحاول نتنياهو استثمارها بطاقاته القصوى للهروب من المأزق الذي تمرُّ به حكومته.