العقيد عبد الجبار العكيدي
كنت قد بدأت في مقالي السابق بالكتابة عن معارك تحرير الثكنات العسكرية الكبرى، في سلسلة مقالات عن المعارك العسكرية التي شهدتها وعايشتها أو سمعت عنها من الثوار الثقات في الحقبة التي كنت فيها قائداً للمجلس العسكري في حلب، وفي مقالي هذا سأتحدث عن المعركة الحقيقية الأولى لكتائب الجيش الحر التي كانت في غاية الأهمية، وكان لهما كبير الأثر في سير المعارك اللاحقة وتطورها.
معركة تحرير معبر باب الهوى الأولى
جيش النظام في المعبر على أتم الاستعداد القتالي من حيث التحصين والتسليح والعتاد القتالي، معززا بكتيبة دبابات، وعربات الفوزديكا، يسانده الطيران الحربي والمروحي، بالإضافة الى مدفعية الفوج 46 الذي يبعد عنه أقل من 20 كم.
في الطرف المقابل ثوار متسلحون بالعزيمة والإيمان وعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها، سلاحهم عبارة عن بنادق الصيد، الكلاشنكوف، بضع رشاشات (ب ك س)، قواذف (أ ر ب ج) فقط مع بعض القنابل اليدوية، وقليل من الذخيرة.
كان الثوار حينذاك قد بدؤوا بتنظيم صفوفهم وتوحيدها ضمن تشكيلات عسكرية، يقود معظمها ضباط منشقون، في حالة ثورية متميزة
شرح العقيد الخطة العسكرية التي أعدها مع مجموعة من الضباط، قَسَم القطاعات وحدد محاور القتال، وأوكل المهام القتالية للقادة الذين كان أبرزهم، المقدم محمد بكور أبو بكر، الرائد خالد العيسى، الملازم أول الشهيد أحمد الفج، النقيب الشهيد مصطفى عبد الرزاق، النقيب الشهيد محمد اليوسف، النقيب علي شاكردي، المقدم عبد الرحيم الحمود أبو فريد، الملازم أول مرشد الخالد، العقيد عبد اللطيف عبد اللطيف، المقدم عبيد عبيد، الرائد أنس إبراهيم، المقدم حكمت عبد الوهاب، النقيب أحمد الحلو.
كانت ساعة الصفر مع آخر ضوء وبدأ الثوار بالتسلل إلى الساحة الكبرى في المعبر القديم الواقع بالقرب من مدينة سرمدا، حيث مفرزة الأمن العسكري، ومفرزة الأمن السياسي، وكتيبة الدبابات، ودارت رحى معارك عنيفة، أبدت فيها قوات النظام مقاومة شرسة، وكعادته في الإجرام والانتقام من المدنيين العزل، صب النظام جام غضبه وحمم مدفعيته، وقذائف دباباته على المدنيين في القرى الآمنة، للضغط على الثوار لإيقاف الهجوم
إصابة الضباط زادت من إصرار قادة المعركة على استكمالها حتى النصر
زئير الأسود في أرض المعركة سُمع صداه عند كل الأحرار المتابعين لمجريات المعركة، وبدت ملامح النصر تظهر، وعلت التكبيرات من كل مساجد المنطقة، معلنة البشرى بنصر معجزة، إلا أن الزئير كان حزيناً فيه غصة ألم على مقتل قائد المعركة وضيغمها، الذي أحبه الجميع، فقد ارتقى شهيداً، مقبلاً غير مدبر، ملاقياً وجه ربه كما تمنى
لم يستوعب النظام الصدمة ولم يتقبل هذه الخسارة الكبيرة التي ستؤدي لفقدانه أهم منفذ حدودي دولي، فبعد ثلاثة أيام أرسل رتلاً ضخما من الدبابات وناقلات الجند المدرعة من الفوج 46 (قوات خاصة)، مروراً بمدينة الأتارب، لتعزيز ومساندة قواته التي تجمعت في المعبر الجديد، في محاولة يائسة للحفاظ عليه.
معركة تحرير مدينة الأتارب:
وفي الثامن والعشرين من شهر أيار 2012، شنت كتائب الثوار بقيادة الملازم أول أحمد الفج، ومشاركة ثوار المنطقة وضباطها المنشقين، هجوماً عنيفاً على قوات النظام في المدينة، ودارت معارك طاحنة في شوارعها استمرت ثلاثة أيام، أسفرت عن طرد قوات النظام من المدينة، وتمركزها في مبنى البلدية، ومبنى قيادة المنطقة، وعلى أطرافها، وقد ارتقى خلال هذه الملحمة أبطال سيخلدهم التاريخ، وليت مقالي يتسع ليتشرف بذكرهم جميعاً، اذكر منهم الشهيد النقيب مصطفى عبد الرزاق، والشهيد النقيب محمد اليوسف.
المحاولة الأخيرة- رتل باتبو
فيي صباح السابع والعشرين من شهر رمضان الموافق 14 آب 2012، كانت المحاولة الأخيرة للنظام، حيث أرسل رتلاً هو الأضخم لم تشهد المنطقة مثله من قبل، حيث انطلق من معسكر الطلائع في المسطومة، الذي كانت تتجمع فيه قواته الخاصة، رتلاً مدججا بكل صنوف الأسلحة، يقوده قائد الفوج 46، متوجهاً إلى المعبر، فاستنفر كل أبناء المنطقة من أرياف إدلب وحلب، عسكريين ومدنيين لملاقاة الرتل والتصدي له، وكانت الملحمة الكبرى الجديدة حين وصوله إلى بلدة باتبو، فتم تدمير الدبابات وحاملاتها، ودبابات النجدة، وكاسحات الألغام، واغتنام دبابتين، وحاملتي دبابات، وكثير من الأسلحة والذخيرة والآليات، ولأول مرة يصبح لدى الجيش الحر دبابات، وتم حرق الرتل وتدميره بالكامل عدا دبابتين استطاعتا الوصول إلى المعبر، وتحت غطاء القصف الجوي العنيف من الطيران الحربي والمروحي، استطاع قائد الرتل الهرب مع ما تبقى من عناصر حامية المعبر باتجاه إدلب والمسطومة.
ارتقى في هذه المعركة، التي استمرت منذ الصباح وحتى العاشرة ليلاً، كثير من الشهداء، أذكر منهم: الأستاذ أحمد غزال أبو أحمد، الملازم أول المنشق سعود المحمد، أبو الفاروق ابن مدينة الفرقلس، العسكري المنشق أحمد عواد، ابن الجولان المباع. تحرر المعبر، وتحررت المنطقة بالكامل، وأصبح تحت سيطرة الجيش الحر ثاني منفذ حدودي، بعد معبر باب السلامة الذي تحرر قبله بأقل من شهر، لينسحب النظام جاراً ذيول الهزيمة، في أول فصول فقدان السيادة الوطنية.وها أنا أكتب بعد أكثر من تسع سنوات، عن معارك تحرير سطرها الأبطال بدمائهم الطاهرة الذكية، لتكون منارة تنير الطريق نحو الحرية والكرامة، وتستلهم منها الأجيال القادمة الدروس والعبر، في التضحية والفداء، وقصص يرويها الأجداد للأحفاد.