حسين عبد العزيز
العربي الجديد:19/11/2021
أن يُبعَد مفتي سورية أحمد بدر الدين حسّون من منصبه، فقد يكون هذا طبيعيا بعد الخطأ الكبير الذي ارتكبه في تفسير الآية “وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ”.
أما أن يُلغى منصب المفتي بالكامل فهذا أبعد من مسألة حسّون. ولا يتعلق الأمر أيضا بما روّجه بعضهم من خلاف قديم بين حسّون ووزير الأوقاف عبد الستار السيد الذي تتولى عائلته بشكل تاريخي منصب الإفتاء في طرطوس، ومحاولته الهيمنة على المؤسسة الدينية.
تعود المسألة إلى عام 2018 الذي أكمل فيه النظام سيطرته العسكرية على محيط مدينة دمشق، وانتهاءه تقريبا من إعادة ترتيب التوزيع الديمغرافي في المناطق السنّية من محيط دمشق جنوبا وحتى حمص وحلب شمالا. خلال هذا العام، أصدر الأسد القانون رقم “31” الناظم لعمل وزارة الأوقاف، في خطوةٍ شكلت امتدادا لعملية تقويض القوة السنّية على مستوى الهوية، وعلى مستوى الهيمنة الدينية في الوعي الجمعي السني، فلأول مرة في سورية، يُشكل مجلسٌ سمي “المجلس العلمي الفقهي”، بهدف إعداد البحوث العلمية الفقهية،
ومناقشة الاجتهادات التي تتعلق بالقضايا الدينية المعاصرة، وتسهم في تحقيق التكامل بين المذاهب الفقهية، بحسبان أن ما يتوصل إليه المجلس يعدّ مرجعا فقهيا جامعا، وتحديد المراجع والمؤلفات والتيارات والتوجهات التي تحمل الأفكار التكفيرية والمتطرّفة، وكذلك التي تتبنّى العنف وسيلةً لتحقيق أهدافها، ومتابعة ما يصدر من فتاوى وأحكام شرعية ومدى تأثيرها على حياة الناس، وترجيح بعض الأحكام الاجتهادية على بعضها الآخر، ضمن شروط الترجيح وضوابطه. غير أن هذه الأهداف تبدو عادية ومفهومة إذا ما قُرئت خارج سياق البنية التكوينية لـ”المجلس العلمي الفقهي”، فقد ضم المجلس، لأول مرة، إلى جانب علماء الدين السنة، 25 من كبار العلماء في سورية، ممثلين عن المذاهب كافة، يضاف إليهم ممثلون عن الطوائف المسيحية كافة… ماذا يعني ذلك؟أولا، إذا نظرنا إلى عدد أعضاء المجلس، نجد مساواة تقريبية بين المذاهب والطوائف الدينية (نحو 15 عضوا يمثلون المذهب السنّي، 25 عضوا من كبار العلماء في سورية ممثلين عن المذاهب كافة بمن فيهم السنّة، نحو عشرين عضوا للطوائف المسيحية: السريان الأرثوذكس، الأرمن الأرثوذكس، الروم الملكيين الكاثوليك، سريان كاثوليك، المارونية، اللاتين، بروتستانت، كلدان كاثوليك، آشوريون).
يشير ذلك، إلى أن التمثيل الديني في المجلس أصبح قائما على مبدأ المساواة، بغض النظر عن حجم الطوائف والمذاهب من الناحية السكانية، وبغض النظر عن تاريخ البلاد الديني. وهذا يعني فتح المجال للطائفة الشيعية تحديدا لمأسسة خطابها وسلوكها الديني، على اعتبار أن الطائفة الشيعية تتشابه مع المذهب السني في امتلاكها فقها وأحكاما ومرجعية عقائدية.
ثانيا، لجميع المذاهب الحق المتساوي في صياغة الخطاب الديني الرسمي، مع ما يعني ذلك من محاولاتٍ لتمييع المرجعية الدينية السنية وإضعافها بناء على مخاوف الأقليات الدينية، ليس من التطرّف السني المزعوم، وإنما الخوف من هيمنة الخطاب الديني السني.جاء إلغاء منصب الإفتاء، المحصور تاريخيا بالسنة، استكمالا لاستراتيجية بناء الدولة المنشودة في العقل الأقلوي الحاكم، المثقل تاريخيا بأيديولوجياتٍ عقائديةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ تجاه السنة، وضمن سياق الفرصة التاريخية التي يجب استثمارها في تحييد السنة بوصفهم مرجعيةً دينية، بعدما تم إضعافها على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وبعدما وسّع النظام من القاعدة الشيعية الاجتماعية من خلال منح الجنسية السورية لعشرات آلاف منهم، بعدما تقلّص عدد الطائفة العلوية خلال السنوات العشر الماضية، وضعف نموها السكاني بسبب أعداد القتلى الشباب في صفوفها.
يعني إلغاء منصب الإفتاء، وإلحاق مهمة الفتوى بالمجلس الفقهي في وزارة الأوقاف، إنهاء استقلالية المرجعية السنية على المستوى المؤسساتي، وجعلها من أعمال السلطة التنفيذية، من حيث إن دار الإفتاء، على الرغم من انصياعها التام للنظام، كانت تشكل هيئة ذات استقلالية شخصية على المستوى النظري. كما أن هذه الخطوة تعيد بناء البعد المفاهيمي للقضاء الشرعي ومنظومة الأحوال الشخصية بما يتلاءم مع الواقع الجديد الذي فرضه النظام بالقوة.
إنها استراتيجية قائمة على إعادة بناء المجال الديني التداولي في الفضاء الرسمي، وفي الفضاءين، الاجتماعي والقانوني العام، وهي خطوةٌ بدت ملحّة وضرورية للنظام، من أجل تأسيس واقع ديني جديد في البلاد، يؤُخد بعين الاعتبار مستقبلا عند كتابة دستور جديد.