العقيد عبد الجبار العكيدي
كان الوضع مأساوياً والمسؤولية التي وقعت على عاتقي كبيرة جداً، وحجم الضغط النفسي أكبر من أن يتحمله الإنسان في تلك الظروف، لدرجة أن عائلتي وأولادي كانوا يبكون قهراً ويقولون لي لماذا عرضتنا لهذا الجحيم من الشتائم والتخوين والإساءات ممن كنا نظنهم الأهل والسند والعزوة، فالجميع تخلى عنا بعد دخولنا، فكنت أخشى أن يصاب أي مقاتل بأي أذى، فالحيز الجغرافي المتوفر لانتشار المقاتلين صغير، والتنظيم مسيطر على القسم الأكبر من المدينة، ولا توجد مقرات سوى بعض البيوت ولا شيء من مقومات الحياة لا ماء ولا كهرباء ولا طعام ولا وقود، لا شيء سوى صوت قصف الطائرات، حتى هذه كانت تُخيفنا وتشكل لنا الرعب، فنحن لم نعتد على طائرات صديقة، فكلما أغارت طائرات التحالف نتوجس خيفة من برميل يسقط علينا.كنا نظن أننا سنكون الأقوى ويكون لدينا الدعم بالسلاح والذخيرة والوقود والطعام وكل شيء، وأننا من سيتحكم بمجريات الأمور، ولكن ما حصل العكس تماماً، فكان مسموحاً لنا إرسال من يحضر لنا المواد الأولية للطعام من مدينة سروج التركية كل أسبوع مرة واحدة، أما الوقود للآليات ومولدات الكهرباء والتدفئة فيدخل لنا كل شهر مرة، وفي كثير من الأحيان لا يكفينا عشرة أيام، أما التسليح والتذخير فلنتدبرها بأنفسنا، والمفارقة كانت أن الطرف الآخر الذي يُفترض أنه محاصر، فداعش من أمامه والأتراك من خلفه، كان لديهم كل شيء فطيران التحالف يرمي لهم بواسطة المظلات كل ما يحتاجون من سلاح وذخيرة، وصهاريج الوقود دائماً ممتلئة، وطعامهم يأتيهم طازجاً، كيف ولماذا لم أجد تفسيراً لذلك.
بعد يومين من وصولنا وصلت قوات البشمركة العراقية بقيادة اللواء عبد القهار قادمة من أربيل وكان عددهم ما يقارب \300\ مقاتل، وكنت في استقبالهم ورحبت بهم في مدينة عين العرب السورية التابعة لمحافظة حلب، في رسالة للجميع على التأكيد على هوية هذه المدينة، وكانوا في غاية الانضباط والتنظيم والالتزام.
على الرغم من أننا كنا متهمين بالعمالة لأميركا، وأن دخولنا جاء بطلب منهم، إلا أن قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لم تتواصل أو تنسق معنا أو تقدم لنا أي دعم عسكري أو لوجستيأخذنا مواقعنا ونظمنا صفوفنا وانضم إلينا مقاتلو فصائل الجيش الحر من لواء ثوار الرقة الذي التحق بنا قائده أحمد علوش العثمان (أبو عيسى) فيما بعد، ومقاتلون من دير الزور والسفيرة ممن فروا من داعش، والذين كانوا موجودين في عين العرب من قبل، وقمت بجولة سريعة على الجبهات وخطوط التماس للاطلاع على الوضع الميداني، وبعد الجولة اتخذت قراري بألا ندخل في أي عمل عسكري مشترك مع القوات المحلية الكردية، والاكتفاء بأعمال هجومية خاطفة على مواقع التنظيم بشكل منفرد وبالتعاون والتنسيق مع قوات البشمركة، وهذا ما حصل لاحقاً، فقد كان جل اهتمامي الحفاظ على عناصري من أن يصيبهم أي أذى فهم أمانة في عنقي ولا شيء يستحق التضحية بعد كل هذا الخذلان.على الرغم من أننا كنا متهمين بالعمالة لأميركا، وأن دخولنا جاء بطلب منهم، إلا أن قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لم تتواصل أو تنسق معنا أو تقدم لنا أي دعم عسكري أو لوجستي رغم أنه يُفترض أننا موجودان لنفس الهدف المعلن من قبلهم وهو محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم الدولة (داعش)، في حين اقتصر تواصلي معهم من خلال علاقتي الشخصية مع السيناتور الراحل جون ماكين الذي التقيته في مدينة شانلي أورفا التركية، والسفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد الذي زارني في مدينة غازي عنتاب.
في حقيقة الأمر لم نخض أي معركة بالمعنى الحقيقي للمعارك العسكرية، وكذلك القوات الكردية التي بالغ الإعلام العربي والغربي ببطولاتهم وبسالتهم ضد داعش، على عكس الحقيقة على أرض الواقع، فالمعارك لم تكن سوى تدريب عملي بالذخيرة الحية لطياري التحالف الدولي التي سحقت أرتال التنظيم حيث كانت صيداً سهلاً في مناطق ذات طبيعة جغرافية سهلة ومنبسطة وطرقات واضحة، وهذا ما يثير إشارات استفهام كثيرة، فقيادات التنظيم العسكرية ليست غبية وتملك خبرة عالية في القتال والتكتيك العسكري، ما يعني صحة أن التنظيم أراد التخلص من عناصره السوريين غير المؤدلجين وغير المقتنعين بعقيدته التكفيرية، والمترددين في قتال الجيش الحر، فكانت النتيجة مقتل ما يزيد عن خمسة آلاف منهم في تلك المعارك، وكل ما فعلته القوات الكردية كان تمشيط المكان بعد تدميره وجمع جثث عناصر التنظيم واغتنام الأسلحة والذخيرة.
مضى الشهر الأول على وجودنا وتأكد لنا بأن أحداً من الفصائل لن يرسل أي مقاتلين لتعزيز موقفنا، بل حصل العكس حيث طلبت قيادة فيلق الشام ممثلة بقائدها منذر سراس وقائدها العسكري آنذاك المدعو أبو حمزة العراقي، استبدال عناصرهم، وما حصل أنهم لم يرسلوا عوضاً عنهم سوى خمسة عشر مقاتلاً أغلبهم لا يحسن حتى استخدام البندقية، وهكذا بقينا بهذا العدد حتى خروجنا منها، وكنا في كل تبديل شهري لهم نعاني الأمرّين، فالتنقل ضمن الأراضي التركية يجب أن يكون ليلاً، وعند وصول العناصر إلى معبر عين العرب برفقة الاستخبارات التركية، وعلى الأغلب يكون بعد منتصف الليل في شتاء قارس، تغلق أبواب المعبر من جهة القوات الكردية في وجهنا وتُغلق هواتف قادتها، ليبقى العناصر في الحافلات حتى الصباح.
خمسةً من الأشهر بقينا هناك لم أتلقَ اتصالاً واحداً ولو من باب الاطمئنان ورفع العتب من قادة كيانات المعارضة المحسوبة على الثورة إن كانوا في قيادة الائتلاف أو الحكومة المؤقتة أو وزارة الدفاع، وما يحز بالنفس أكثر أنني كنت أرى وأنا بجانب قائد قوات البشمركة الذي كنا نمضي أغلب الوقت معاً، كيف أن رئيس إقليم كردستان العراق السيد مسعود البرزاني يتصل شخصياً كل يوم مع قائد قواته في عين العرب، ليطمئن على أحوالهم ويرفع من معنوياتهم ويسأل عن احتياجاتهم.
في السادس والعشرين من شهر كانون الثاني من عام 2015، تم تحرير المدينة وانسحاب فلول تنظيم داعش من أطرافها، وعلى رغم البرد القارس حينها إلا أن رائحة الموت كانت تملأ المكان، وأينما اتجهت في شوارع المدينة وأحيائها المدمرة ستتعثر بجثث عناصر التنظيم المتفسخة، وبدأ التحضير لإعلان التحرير ببيان مصور، اختلفنا عليه مع القادة القنديليين الذين كانوا رافضين أي ذكر لاسم المدينة \عين العرب\ والاقتصار على ذكر \كوباني\ فقط، وبعد سجال طويل وجدال عقيم انسحبت ورفضت حضور الإعلان معهم فيما حضر قائد لواء ثوار الرقة أبو عيسى.
انتهت المعركة وتصدرت أخبار انتصار أتباع حزب العمال الكردستاني (P K K) على تنظيم داعش وسائل الإعلام العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي محتفيةً بنصر كان البداية لتسليم وحدات الحماية كل المناطق العربية وتهجير أغلب أهلها ومقاتليها الذين حرروها من قوات النظام بدمائهم في عام 2012، وبذلك يكون قد أسدل الستار على الفصل الأول، ليبدأ فصل جديد من المسرحية التي أعد السيناريو لها النظام وإيران وأخرجها التحالف الدولي بقيادة إدارة الرئيس أوباما.
بدأت مضايقاتهم لنا بشكل معلن لإخراجنا من هناك، فالفصل الثاني من المسرحية يتطلب عدم وجودنا حتى لو كان عددنا قليلاً وغير مؤثر، ووجودنا بحد ذاته كان مصدر إزعاج كبير لهم، كنت صبوراً رغم الضغوط التي لا تُحتمل والتي كادت أن تصل إلى حد الصدام المباشر معهم، ولكننا وعلى الرغم مما كان يحدق بنا من أخطار تستهدف حياتنا إلا أننا لم نخرج.
خلال تلك الفترة تواصلت مع الكثيرين من قادة سياسيين وعسكريين من أبناء الرقة وجرابلس ومنبج وتل أبيض والرقة ودير الزور، واجتمعنا عدة مرات، وكان الجميع متحمساً لتشكيل قوة عسكرية من الجيش الحر لتحرير مناطقهم من تنظيم داعش، فالجميع كان مدركاً أن قوة الـ (YPG-YPJ) بدأت تنمو وتتضخم نتيجة الدعم اللامحدود من أميركا، والجميع يعلم نواياهم التوسعية وحلمهم بالانفصال وإقامة كانتون كردي.
طرحت الأمر على الجانب التركي بأنه يمكننا تجهيز ما يقارب العشرة آلاف مقاتل من أبناء المناطق التي تسيطر عليها داعش، ونحتاج إلى الدعم لتحريرها وطرد التنظيم منها، والسماح لنا بالدخول إما من معبر تل أبيض أو من معبر جرابلس، قبل أن تسبقنا إلى ذلك قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، فقد بات جلياً وواضحاً بأن المخطط المرسوم لا يقتصر على طرد التنظيم من عين العرب بل هو أوسع من ذلك.
ورغم يقيني التام بعدم استجابتهم لطرحنا ذاك إلا أنني عرضت المشروع على الأميركان أيضاً، ولكن وبكل آسف لم ألقَ آذاناً صاغية لا من التركي ولا الأميركي، فالمخطط كان واضحاً لمن كان عنده بصيرة وبعد نظر، أما الحالمون بتحرير روما فكانوا منشغلين بصراعاتهم وحروبهم البينية وفتاوى تحريم القتال تحت راية عميلة أو إلى جانب فصائل الجيش الحر (المرتدين)، بل كانوا يلقنون عناصرهم أن قتالنا أوجب من قتال النظام.
في ظلّ تصاعد العمليّات ضد تنظيم داعش دفعت الولايات المتحدة الوحدات الكردية إلى إنشاء تحالفٍ عسكريٍّ مع مكوّنات عربيّة وعرقيّة ودينيّة أخرى تحت اسم قوات سوريا الديمقراطية والتي كوّنت وحدات الحماية قوامه العسكري والقياديلم يعد بالإمكان البقاء في عين العرب فقد أصبحنا شبه محاصرين وتأكدنا أن وجودنا لم يعد له أي جدوى أو فائدة، وخاصة بعد أن رفضت أغلب فصائل الجيش الحر وقيادة الائتلاف الوطني الانخراط ضمن مشروع التأهيل والتدريب المعروف بمشروع البنتاغون لمحاربة تنظيم داعش، فكان قرار واشنطن بالاعتماد على القوات الكردية ودعمها لتصبح الشريك والحليف الرئيسي للتحالف الدولي في محاربة الإرهاب، حينها قررت الانسحاب والخروج من المدينة، ورغم محاولات مسؤول الملف السوري أبو فرقان بإقناعي بالبقاء إلا أن قراري كان حاسماً ولا يمكن التراجع عنه، فالبقاء أصبح انتحاراً، وفي نهاية شهر آذار عام 2015 خرجنا بما تبقى لدينا من سلاح وعتاد دون أن يصاب أي من مقاتلينا بأي أذى خلال فترة خمسة أشهر من تواجدنا هناك.وفي ظلّ تصاعد العمليّات ضد تنظيم داعش دفعت الولايات المتحدة الوحدات الكردية إلى إنشاء تحالفٍ عسكريٍّ مع مكوّنات عربيّة وعرقيّة ودينيّة أخرى تحت اسم قوات سوريا الديمقراطية والتي كوّنت وحدات الحماية قوامه العسكري والقيادي الأساسي تحت مسمى جديد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
وفي 12\10\2015 أعلن عن التشكيل الجديد في محافظة الحسكة في مؤتمر صحفي ضمّ ممثلين عن: “وحدات حماية الشعب، وحدات حماية المرأة، المجلس العسكري السرياني، إضافة إلى ممثّلين عن التحالف العربي السوري المكوّن من فصائل محليّة شاركت في غرفة عمليّات بركان الفرات، مثل كتائب شمس الشمال ولواء ثوار الرقّة ولواء أمناء الرقّة وجيش القصاص، ولواء التوحيد القاطع الشرقي، قوات الصناديد، إضافة إلى جيش الثوّار، وأطلق على ذلك التشكيل: قوات سوريا الديمقراطية.