حسن النيفي /موقع تلفزيون سوريا
ربما انطوى العنوان أعلاه على استفزاز ما، ليس مبعثه وجود الطائفية كعلامة دالّة على التمايز بين الناس وظاهرة نافرة لا تنسجم مع المفهوم الحديث للدولة التي تتخذ من مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان ناظماً لعلاقة الفرد بالدولة، بل بسبب نسبة تلك الظاهرة إلى طبقة أو شريحة من المفترض أن تكون هي المُنتِجة للوعي والفكر، ولعل هذا ما يؤهلها دوماً للنهوض بدور معرفي وثقافي في حياة الشعوب.
لا تبغي هذه المقالة الوجيزة إلى إثبات أو نفي نسبة الطائفية إلى النخبة، بقدر ما ترمي إلى تقصّي ورصد محتوى العنوان أعلاه، من خلال الوقوف عند أبرز ما كتبه وقاله مثقفون وسياسيون بحق أعمال فكرية وثقافية كان لها تأثير بارز الحضور في المشهدين الثقافي والسياسي بآن معاً من جهة، وكذلك بهدف التعرّف على طبيعة الخطاب الثقافي المناهض للطائفية في المشهد السوري من جهة أخرى.
ربما يكون كتاب المفكر اللبناني (حسين مروة 1910 – 1987) – النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – مثالاً يمكن الاستشهاد به، من جهة أن مؤلف هذا الكتاب، ومن خلال دراسته المستفيضة والمعمّقة لتاريخ الفلسفة الإسلامية وجد أن معظم التيارات والجماعات والحركات الإسلامية التي كانت على هامش سلطة الخلافة، إنما كانت توجهاتها الفلسفية والفكرية تنبثق عن نزعة مادية تقدمية تنسجم مع سلوكها السياسي المناوئ وغير المهادن لسلطة الخلافة التي غالباً ما التزمت بمرجعياتها النصية اليقينية أو الغيبية، ولعل هذا الجهد المعرفي الكبير لحسين مروة لم يحل دون أن يعزو بعض منتقديه خلاصاته المعرفية والفلسفية إلى ميول طائفية، علماً أن الرجل كان ماركسياً، بل قيادياً بارزاً في الحزب الشيوعي اللبناني، بل من أبرز المثقفين الشيوعيين على المستوى العربي، ولكن هذا لم يمنع الطرف الآخر من القول إن ولاءه الطائفي كان طاغياً على ولائه الإيديولوجي، وربما تزداد المفارقة حدّةً حين نجد أن الجهة التي اتّهمت باغتياله عام 1987 ، كانت جهة شيعية مقرّبة من إيران.
وقبل عملية اغتيال حسين مروة بسنة واحدة، أي عام 1986 بدأ الدكتور محمد عابد الجابري 1936 – 2010 ، بإصدار كتابه (تكوين العقل العربي) وهو الأول ضمن مشروعه في (نقد العقل العربي)، وما إنْ صدرت الأجزاء الأخرى من مشروعه الفكري حتى ارتفعت أصواتٌ كثيرة تذهب إلى أن مشروع الجابري إنما جاء ردّاً على كتاب حسين مروة، من جهة أن الجابري في سياق مشروعه ينتهي إلى خلاصات فلسفية يؤكد من خلالها أن التيارات والحركات والجماعات الإسلامية ذاتها التي وسمها حسين مروة بنزعة مادية تقدمية، ما هي من وجهة نظر الجابري سوى تيارات عرفانية تتأسس رؤاها وتصوراتها على نزعة فلسفية (غنوصية – باطنية) يعود منشؤها إلى الفلسفة الفارسية القديمة، وهي على النقيض من النزعة العقلية التي وجد تجلياتها لدى ابن رشد، وبناء على ذلك اتُهم الجابري بأنه صاحب دعوة (سلفية رشدية جديدة)، علماً أن الجابري، وعلى امتداد سلسلته المؤلفة من خمسة أجزاء، لم يأت على ذكر حسين مروة. بل ربما ذهب بعض متعقّبي الجابري إلى أبعد من ذلك، حين وجدوا أن تزامن صدور مشروع (نقد العقل العربي) مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، ما هو إلّا انحياز وانتصار للعراق (السنّي) ضدّ إيران (الشيعية) مُستندين في تأويلهم هذا إلى فتوى كان قد أصدرها الخميني بإهدار دم محمد عابد الجابري باعتباره (مفسد في الأرض) وفقاً للمرجعية الخمينية. في حين أننا نجد من جهة أخرى أن الجابري اعتذر عن قبول جائزة من العراق قيمتها مئة ألف دولار في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وكذلك لم يتوان البعض من الذهاب إلى أن النقد الذي وجهه أدونيس لمشروع الجابري، واتهامه بغياب أي ملمح من ملامح التجديد واكتفائه بتوصيف وتصنيف ما هو موجود في التراث فحسب، بأنه نقدٌ مُؤسّسٌ على دواعٍ طائفية.
ولئن تمكّنت لوثة الطائفية من التغلغل في المنتجات الثقافية والفكرية النوعية وفقاً للمثالين المذكورين سابقاً، فإن تجلياتها في الأوساط الثقافية الأخرى، وكذلك في الميادين السياسية تغدو أكثر استمراءً لدى البعض، ولعل الفتوحات الثقافية للثورة السورية كشفت جانباً كبيراً من هذا الاستمراء النخبوي للتعاطي مع الظاهرة الطائفية ولكن من منظورات فيها كثير من المفارقات الفاضحة التي يجسدها المشهد الثقافي والسياسي السوري الذي يزخر – على امتداد عشر سنوات خلت – بحوارات ونقاشات بين (النخب) السورية على اختلاف توجهاتها، ولعل أكثر حلقات هذا الحوار استعصاءً ومثاراً للتشنّج هي مسألة (العلمانية) أو موضوع فصل الدين عن الدولة أو سوى ذلك، إذ ترتفع سخونة الحوار بين الأطراف المختلفة إلى درجة الغليان، ليتحول الحوار إلى حالة من الخصومة يتناسل منها تراشق كبير بالاتهامات المتبادلة. ولئن كانت الجهة المُستَهدفة من هذا الحوار أو الجهة صاحبة المصلحة الحقيقية من وراء هذا النقاش هي المجتمع السوري، أو من المفترض أن يكون الأمر كذلك، إلّا أن واقع الحال يؤكّد أن كلا الطرفين المتراشقين (العلمانيون وخصومهم من الإسلاميين) هما في الأغلب الأعم بعيدان عما هو واقع بالفعل في الوسط الاجتماعي السوري، أي إن فحوى المقولات التي يستخدمها كلا الطرفين المتصارعين غير مُستمدّة من عملية استقراء لسيرورة الحياة الاجتماعية بين السوريين بمختلف تواجهاتهم وانتماءاتهم العرقية والمذهبية، بل إن هذه المقولات ما تزال تغرف من مفاهيم أصحابها عن الكون كما يرونه في ذواتهم وليس كما هو في الواقع وفقاً لعبد الله العروي، بدليل أن المناطحات الإيديولوجية بين النخب الثقافية لم نشهد تجلياتها الفعلية في المجتمع السوري منذ تشكّله، ولا يحتاج الأمر لتكرار الحديث عن أن المجتمع السوري لم يشهد حالات انفجار اجتماعي عرقي أو طائفي، بل شهد حالة من التعايش والاندماج انتهت في كثير من الأحيان إلى حالة تشبه الانصهار الاجتماعي وجدانياً ونفسياً، بل يمكن الذهاب إلى أن حالات احترام الاختلاف والتباين في العقيدة والمذهب والملبس وطريقة العيش سواء ضمن العائلة الواحدة أو بين العائلات المتجاورة في البلدة أو المدينة الواحدة أو بين الطوائف توحي بقوّة إلى أن الفحوى الحقيقي للقيم العلمانية – بما هي حرية الاعتقاد واحترام الآخر وقبوله كما هو – هو متجذّرٌ في حياة السوريين العاديين أكثر من تجذّره بكثير في عقول ونفوس من يدّعون النخبوية، بالطبع لا يمكن اعتبار الحالة الطائفية التي حاولت، وما تزال السلطة الأسدية تكريسها في المجتمع السوري بغية استثمارها في حربها على السوريين، فهي بالتالي حالةٌ مفروضة وليست نابعة من السياقات التاريخية والاجتماعية للمجتمع السوري، بل إن وجودها مقرون بوجود السلطة، وبالتالي هي طائفية في الدولة وليست في المجتمع بحسب تعبير برهان غليون، وزوالها – كذلك – مرهون بقدرة السوريين على استعادة الدولة والسياسة من الطغمة الحاكمة والعيش في ظل دولة الحريات والعدالة والقانون والديمقراطية ومع ذلك ما تزال قطاعات واسعة من النخب السورية تصرّ على المنازلة حول إشكالات مُتوَهَّمة، ليس لها وجود ملموس أو تأثير حقيقي سوى في أذهانهم، مما يجعل التساؤل مشروعاً عن إصرار تلك النخب على التمسّك بمقولة تحولت إلى شعار لازم، وتتمثل بأولوية طمأنة الأقليات في سوريا، طمأنتها ممّن؟ من الأكثرية العربية السنية؟ وهل هذه الأكثرية هي في مأمن ممّا يتجرّعه السوريون من هوان؟ وهل كانت قبل ثورة آذار 2011 كذلك؟ ومن هو المكوّن الذي كان أكثر استهدافاً وعرضةً للقتل والانتهاكات من جانب القوى المتطرفة المتوحّشة سواء تجسّدت بداعش ومشتقاتها أو تجسّدت بالطغمة الأسدية على مدى أحد عشر عاماً؟ وعلى ضوء ذلك، يمكن تفسير إصرار النخب على تصدير أولوياتها والعكوف على ما في أذهانها من مسلّمات دون النظر إلى ما يطابقها أو يوازيها من إرهاصات واقعية على المستوى المعاش، على أنه حرصٌ على استمرار وصايتها الإيديولوجية التي تتوهّمها على المجتمع، كما هو حرصٌ في الوقت ذاته على استمرار التفكير ضمن الفضاء الإيديولوجي الذي غالباً ما أدّى الخروج منه إلى انقطاع الأوكسجين عن النخب المؤدلجة.