“
العربي الجديد 26/4/2021
هذه السيدة التي تعتصر ألماً اليوم، تقف إلى جوار جثمانه، وتمشي معه إلى حيث يستقر في أولى محطات رحيله الأخير في باريس، على أمل ألاّ تكون تلك محطته الأخيرة، فإيمانها بأنّ الزوج الراحل ترك مخزوناً كبيراً من تجربةٍ مديدةٍ، ما زال يكتنزها حاسوبه، والأمل أن تمتد له يد المساعدة لتحرّرها وتؤمن وصولها إلى أصحاب الحق فيه من كلّ السوريين، فلدى وديعة كثير من ودائع ميشيل كيلو السياسية والإنسانية، وما أكثرها.
ميشيل الإنسان الذي أستطيع أن أكتب عنه الكثير، والذي أعاد سورية بتفاصيلها إلى بيتنا، منحني، أنا وزوجي، استراحة من غربتنا خلال زيارته لنا في فيينا مكان لجوئنا، بعدما ضاقت فرصنا في الحياة داخل سورية كما هو حال كثيرين من أمثالنا. كان الجدً الذي روى لأولادي الشباب “حكاية ميشيل كيلو الحقيقية” حكاية العصفور الآخر الذي خبروا طيرانه وألوانه واتساع سمائه، على عكس ذلك الطفل الذي غيّب النظام معالم الحياة عنه، فعجز عن الانبهار والتخيّل. صادق ابني الكبير مجد، وتابع أخباره، كتب له الرسائل كما لو أنّه اختصر سنوات الفارق العمري كلّها بينهما ببساطته وتباسطه.
ونافس ابني الأصغر حسن، في حسّ الفكاهة والخطابة، وذهب معه إلى أقصى أحلامه ومشاريع مستقبله. علّمني، مع زوجته الرائعة، كيف أبني هرماً من الاكتشافات المستقبلية مع ولديّ، وهو يسرد تفاصيل علاقته مع ابنه حنّا، الشاب الذي تحمل أعباء مواقف والده الوطنية، ومع أحفاده من ابنه أيهم، وابنته شذى.خسر تراب سورية اليوم احتضان واحدٍ من عشّاقه، وأحد أنبل من عملوا من أجل تحرير الإنسان الذي عاش فوقه، ليعاقب بحرمانه منه حياً في آخر سنواته، وميتاً غريباً في أرضٍ عرفت كيف تصنع له مكاناً بديلاً، يأوي إليه مع عائلته.
هو الرجل الذي لم تثنه سنوات الاعتقال داخل زنزانات بلده، ولا مخاوف تكرارها، من أن يستمر في كفاحه من أجل الحرية، من داخل بلده ما أمكنه ذلك، وقد صدق في قوله “أموت من أجله وفي سبيل حرية شعبه”.
وقد فعلها، مات ميشيل كيلو وهو ممسكٌ بسلاح قلمه، يدافع عن وطنٍ يتسرب منَا جميعاً، يضمُر شيئاً فشيئاً، لكنّه على الرغم من ذلك، بقي بين كلماته في وصيته: وطن سوري يتّسع للجميع، وكبير بالجميع منا، عرباً وكرداً وآشوريين وشركس وتركمان، بكلّ تنوعنا ومذاهبنا. لم تغير حروب السنوات العشر خطوط حدود بلده في ذاكرته، وقد آمن بأنّ وحدتنا – نحن الشعب – هي التي تطبع صورة خريطتنا دولةً تخرج من تحت رماد التمزّق، وتعود سورية الواحدة والفريدة.
كسبت باريس اليوم ذلك الوسام السوري الرفيع ميشيل كيلو، وأخذت بين جنباتها جثمان مناضل عنيد، آمن بثوابت ثورات الحرية، وأعلى قيمة الكرامة الإنسانية في فعله وقوله، حتى آخر لحظات صحوه في حياته الممتدة 81 عاماً. منحته فرنسا أمان الإقامة، ومنحها هو عيوننا المتوجهة إليها، وبحراً من دموعنا التي ترافق جثمانه من كنيسة Saint-Pierre-de-Montrouge إلى مثواه “المؤقت” في مدفن Cimetiere parisien de Bagneux، حيث لن يقبل الأحرار من السوريين إلّا أن يكون مثواه الأخير في تراب سورية الحرّة وفي اللاذقية، مهد عشقه الأبدي، وحيث يستحقّ أن يبقى علامة بارزة في صناعة تاريخ سورية الحديثة، حين يبقى الفكر وتزول البنادق.اختصر ميشيل كلّ ما أراده من السوريين من بعده بوصيةٍ حمّلني أمانة نقلها إلى كلّ العالم، فأودعني رسائله، ووضع لي عناوين ما أراد أن يوضحه، وأهداني ثقته، بأن أكون المؤتمنة على إعدادها، وإرسالها إلى صحيفة العربي الجديد في تأكيد منه على منحي هذا التقدير الكبير من كاتب وسياسي، اختلفت معه في مواقف عدة، لكنّنا اجتمعنا معا في أعمال كثيرة، نسعى من خلالها إلى بناء جسور تواصل وثقة مع كلّ السوريين، وكأنّ اختلافاتنا كانت سبباً لتقاربنا وصداقتنا التي بدأت أولى ملامحها في دمشق 2011 إبّان انطلاقة الثورة.