لم تعد الأخبار القادمة من الداخل السوري تثير الفضول، هكذا هو عموماً حال أخبار البؤس، فهي ليست بالمبهجة، ولا بالطريفة عندما تصبح معتادة. ربما، لو أتى خبر، على سبيل المثال، مفاده ازدهار حالات الدعارة بين القاصرات، لأثار الخبر انتباهاً ورواجاً، حتى يصل القارئ إلى تفسير الظاهرة بانتشار هائل للبؤس، وحينها يتحول الخبر برمته إلى خبر نمطي ممل. الطرافة وما يبدو لامعقولاً، حتى ضمن الوحشية الأسدية، لهما حظ من الاهتمام والانتشار يفوق حظ أولئك البائسين المنسيين. وكي لا نتسرع في لوم الذين يشيحون أبصارهم عن ذلك البؤس؛ بالتجاهل يحمي كثر أنفسهم من ذلك الإحساس بالقهر والعجز معاً. ذلك إذا كنا مدفوعين باللباقة، وأغفلنا الأثر الأقسى لانعدام الأمل.بالمقارنة مع الأسعار العالمية، ما يراه السوري غلاء فاحشاً هو ليس كذلك، فالأسعار في غالبيتها حتى الآن تقارب الأسعار العالمية أو أقل منها. الغلاء يظهر بالقياس إلى الدخل، عندما مثلاً بالكاد يشتري راتب موظف حذاءين قليلي الجودة، أو بالكاد يكفي لاستئجار شقة، وأخيراً بالكاد يطعم عائلة متوسطة الخبز فقط. العتبة الأخيرة من الغلاء تختلف عن سابقاتها، ففي المراحل الأولى المتدرجة، كان لمدخرات بعض الشرائح أن تخفف عنها الصدمة، وكان للمساعدات البسيطة التي يتلقاها البعض من أفراد العائلة في الخارج أن تعوّض الغلاء. العامل النفسي كان يساعد على امتصاص موجات الغلاء الأولى بعدّها طارئة، مما لا يؤثر جداً في أنماط عيش المتضررين ولا يستهلّ تأثيرات اجتماعية مستدامة كما هو الحال الآن. السوريون موعودون بارتفاع جديد للأسعار مرده الارتفاع الرسمي لأسعار المحروقات، تحديداً المستهلكة في القطاع الصناعي في بلد منهار يحتاج إلى البدائل الصناعية المحلية! وكالة الأنباء الرسمية الأسدية، في نقلها قرار رفع الأسعار، ألقت بالمسؤولية على “الحصار الجائر” الذي تفرضه الإدارة الأمريكية، ما يعني الاعتراف ضمناً بجدوى الحصار، بل تحميله تبعات الفشل الأسدي كلها، لكن مع الاحتفاظ بنغمة التصدي للحصار وعدم الرضوخ للتدخلات الخارجية. إذاً، لا ضوء ينتظر السوريين في آخر النفق، لا شمعة وهمية على الأقل ترسمها سلطة الأسد في نهايته.العزاء الوحيد الذي تقدّمه السلطة للخاضعين لسيطرتها هو أنهم جربوا من قبل صعوبات العيش، وهذه مجرد محنة أخرى تُضاف إلى طبيعة حياتهم. لا المؤامرات الغربية المزعومة بجديدة على الإعلام الأسدي، ولا شظف العيش بجديد على السوريين الذين ينبغي أن يتصدوا لها. بين هذين الحدين هناك أمل غامض، غير محدد زمنياً، فالسلطة سبق لها الانتصار على المؤامرات، وستنتصر هذه المرة أيضاً. ينبغي أن نتذكر دائماً أن ثمن التصدي للمؤامرة يدفعه السوري البائس، بينما النصر تحققه السلطة القوية الحاذقة. لعل مواجهة الثمانينات هي المثَل الذي لم تتوقف الأسدية عن التذكير به، علناً أو ضمناً. حينها كانت بموجب روايتها المعتادة “تحارب في الداخل عملاء الخارج”، وتحقق الانتصار الذي دفع السوريون ثمنه المعيشي والقمعي. آنذاك فرغت خزينة المصرف المركزي تماماً، قيل أن مخزونها قبضه رفعت الأسد ثمناً لمغادرته، وارتفعت الأسعار مع انخفاض شديد في سعر صرف الليرة، ومع هروب رساميل ضخمة إلى الخارج. ثم في التسعينات انفرجت الأزمة المعيشية، مع انفراج علاقات السلطة بالخارج، بإعادة الدفء إلى علاقاتها الخليجية، وكذلك الانفتاح على الغرب والموافقة على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام مع إسرائيل. هكذا، وفق الإحالة السابقة، توحي الأسدية بأنها تملك المفاتيح في جيبها، وستخرجها في الوقت المناسب. هي، بتعبير طالما أطلقه المعجبون بها، تلعب سياسة “حافة الهاوية” وتتقنها. أي أن تحمّل الأزمات المعيشية هو جزء من اللعب على حافة الهاوية، وسيأتي الحل “لا بد أن يأتي” عندما ييأس الخصوم من تعديل سلوك الأسدية، فيرضخون لها مجدداً كما فعلوا مرات ومرات. تخاذلُ العالم عن إنقاذ السوريين من المقتلة الأسدية يغذي الانطباع ذاته، فالقوى الكبرى رغم كل ما حدث تفضّل الأسدية على أي بديل، وفي اللحظة المناسبة ستعيد التطبيع معها ليعود الوضع إلى ما كان عليه قبل عام 2011.ركن من أركان سياسة حافة الهاوية، إذا أقرينا بوجودها وجدواها، أن الأسدية كانت تضع السوريين معيشياً أيضاً على حافة الهاوية، وعندما يتدافعون لتحاشي الأخيرة فقد كان هناك متسع لهم كي لا يسقطوا فيها. كانت الأزمات تحت سيطرة نسبية، أو تامة أحياناً، وأودت أزمات الثمانينات على نحو خاص بالطبقة المتوسطة، بعد أن أودى انقلاب البعث بالرأسمالية الوطنية الناشئة. في أسوأ أيام الثمانينات لم يصل الحديث إلى احتمال حدوث مجاعة، أو هبوط النسبة الساحقة من السوريين إلى ما دون خط الفقر، بل كان يكفي أن ترخي السلطة قليلاً قبضة احتكارها الاقتصاد كي يُحلّ العديد من الأزمات الضاغطة. لم تكن هناك عقوبات دولية ولا حصار، كانت ثمة عزلة وانعزال يتوسطهما احتلال بلد آخر “لبنان” هو بمثابة رئة لصفقات السياسة الخارجية وبمثابة رئة للاقتصاد المنهك. تآكلت الأسدية بصيغتها السابقة عندما سقطت في الهاوية، وعندما أسقطت السوريين فيها. على مستوى السلطة، لم تعد المفاتيح في جيبها كما من قبل، فالسياسات الخارجية محكومة من قبل قوتي الوصاية الروسية والإيرانية، ولعلنا نخطئ باستخدام تعبير “السياسة الخارجية” لسلطة لا تربطها علاقات مع معظم دول العالم. السياسات الاقتصادية الداخلية ليست محكومة فقط بعوامل العقوبات والحصار، وبقاء مناطق سورية مهمة اقتصادياً خارج السيطرة، هي محكومة أيضاً بالدائنين الروسي والإيراني ومطالبهما التي لها الأولوية على قوت السوريين. في ثنايا ذلك، يمكن القول أن الأسدية أكلت ذاتها، بانقضاضها على العقد غير المكتوب مع السوريين، وهو عقد قد لا نجد له مثيلاً من حيث إبقائهم على حافة الهاوية. الدفع بهم إلى السقوط هو تحلل من ذلك العقد المجحف أصلاً، ولا غرابة في أن شهدت سنوات التحلل منه إبراز ترف العصابة الحاكمة وشركائها القلائل على نحو لم يكن معهوداً من قبل. لقد ترافق إفقار الطبقة المتوسطة في الثمانينات مع قليل من الحياء اقتضى إبقاء الثروات المنهوبة بعيدة عن أعين السوريين، أما الدفع بالغالبية الساحقة إلى ما دون خط الفقر فلم يلازمه قدر ضئيل من الحياء، لا لأن مَن أباد وهجّر الملايين لن يتحلى بالحياء وإنما لأنه أيضاً فقد مشروعه المستقل كصاحب سلطة.لن يستثير بؤس السوريين العالم، ومن المرجح بقاؤه مهملاً تماماً لزمن ليس بالقصير، ولدينا في التاريخ القريب أمثلة على بلدان تُركت لشتى أصناف البؤس لأن العالم لا يريد تحمل مسؤولية التغيير. ولعلنا نخطئ بأن نربط تراكم عوامل الثورة مع البؤس المدقع، فالاحتجاج على الأخير عندما يشتد قد لا يتعدى ازدياد حوادث العنف والقتل والانتحار، وهذه تأخذ حظها من الاهتمام بقدر ما قد تحمل من غرابة وطرافة.