صبحي حديدي القدس العربي:15/1/2021
ليس واضحاً، حتى الساعة على الأقلّ، السبب في وقوع أعداد كبيرة من القتلى جراء الغارات التي شنّتها قاذفات جيش الاحتلال الإسرائيلي مؤخراً، وطالت سلسلة أهداف في مناطق البوكمال والميادين ومحيط مدينة دير الزور، شرق سوريا.
المعلومات المتوفرة عن الانتشار العسكري في هذه المناطق تشير، حسب موقع «فرات بوست» إلى استهداف ميليشيات «لواء زينبيون» وأغلبية مقاتليه باكستانيون، و«لواء فاطميون» ذي الأغلبية الأفغانية؛ وهؤلاء، في اللوائين، عناصر محدودة التدريب ومتواضعة القدرات، وثمة ما يدعو إلى التساؤل عن سبب تعمّد دولة الاحتلال إيقاع أعداد كبيرة من القتلى في صفوفهم.
هنالك، في المقابل، سبب أكثر وضوحاً في حالة «كتائب حزب الله» العراقي المنتشر في البوكمال، والمبرر هنا لا يقتصر على دولة الاحتلال، بل يشمل الإدارة الأمريكية والبنتاغون بسبب الصلة العراقية وتهديد الوجود الدبلوماسي العسكري الأمريكي هناك.أكثر جلاء هذا الجديد اللافت الذي طرأ، إسرائيلياً، على الأعراف الشائعة بصدد امتناع دولة الاحتلال عن إعلان مسؤولية قاذفاتها عن تنفيذ الكثير من عمليات القصف (1000 عملية، خلال السنوات الخمس الأخيرة، حسب صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية).
الجديد تمثّل في تسريب خبر عن معلومات وفّرتها واشنطن لخدمة عمليات القصف الإسرائيلية، وأنّ وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو قدمها إلى رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين خلال لقاء احتضنه مقهى في واشنطن؛ من باب رفع الكلفة، ولتعظيم مضامين الإهانة الموجهة إلى طهران. وقد يُقال، في تفسير أوّل روتيني الطابع، إنّ بومبيو يواصل أداء الدور الذي أناطه بنفسه، بموافقة سيّده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب غنيّ عن القول، كعرّاب لسلسلة من الإجراءات التي قد تتكفل بتعقيد مهامّ إدارة جو بايدن في السياسة الخارجية.
وقد يُساق، كذلك، رأي يقول إنّ الرسالة موجهة إلى إيران بصفة أساسية، لجهة منح دولة الاحتلال ترخيصاً أكثر وضوحاً بالذهاب أبعد وأدهى في مقارعة طهران على الأرض السورية.وفي مظاهر هذا الجديد ما سرّبته الاستخبارات الأمريكية، صاحبة التسريب ذاته عن لقاء المقهى، أنّ بعض المقارّ ومخازن السلاح والعتاد التي قصفتها القاذفات الإسرائيلية كانت تخدم أيضاً البرنامج النووي الإيراني؛ الأمر الذي يجافي المنطق من حيث المبدأ، ولكنه لا يستبعد فرضية دخول واشنطن على خطّ التسخين الدائم بين دولة الاحتلال وطهران، من زاوية سوف يلوح أنها تخصّ الأمن القومي الأمريكي، وتشاغب في الآن ذاته على نوايا بايدن في العودة إلى الاتفاق الدولي حول البرنامج النووي الإيراني؛ ومن هنا حضور بومبيو شخصياً في المشهد.
وبعض كتّاب الأعمدة المختصين بالشؤون الدفاعية في الصحافة الإسرائيلية أعربوا عن عدم الرضا إزاء هذه النقلة، ليس لأنها تكلف دولة الاحتلال أعباء إضافية على مستوى الاستنفار والتحسب واحتمالات التصعيد من جبهات لبنانية أو سورية أو حتى عراقية، فحسب؛ بل كذلك لأنّ إدارة أمريكية قادمة على الأعتاب، والتكهنات حول سياساتها ليست واضحة تماماً أو ليست قاطعة بصدد هذه الملفات.
يبقى، بالطبع، الجانب الذي يُنتفى، موضوعياً وطبقاً لوقائع سنوات وعقود، من حيث أنّ تعظيم الإهانة لا يُقصد به شخص بشار الأسد ولا جيشه، رغم أنّ القصف الإسرائيلي استهدف مواقع تابعة للنظام رسمياً أو اسمياً، مثل مقرّ الأمن العسكري في مدينة دير الزور، واللواء 137 وتلة الحجيف ومخازن عياش ومحيط المطار. فمن جانب أوّل أعلنت دولة الاحتلال، مراراً في الواقع، أنها حين تستهدف قوات النظام فإنها لا تفعل ذلك إلا لأنها تأوي ميليشيات إيرانية التابعية، أو الحرس الثوري الإيراني ذاته. ومن جانب ثانٍ، سبق لدولة الاحتلال، على اختلاف ساستها وعقائد جنرالاتها، أن أعلنت أنّ إسقاط نظام آل الأسد ليس هدفاً لها وليس في مصلحتها، وهذا خيار تعزز أكثر فأكثر بعد انطلاق انتفاضة الشعب السوري في آذار (مارس) 2011.
جانب ثالث هو مقادير التفاهم المذهلة بين أركان جيش الاحتلال وأركان القوات الروسية المرابطة في مختلف أصقاع سوريا، وفي مطار حميميم الساحلي خصوصاً؛ حول تنفيذ غالبية الضربات، حيث الرادارات الروسية ليست خرساء لعجز تكنولوجي مثلاً، بل هي أقرب إلى وضعية الإخراس عن سابق قصد وتصميم.ولا يغيب عن حسابات هذا المشهد، في قديمه وفي مستجدّه، حال مدينة دير الزور ذاتها، ثمّ عشرات البلدات والقرى الواقعة على نهر الفرات، إلى جانب مناطق المحافظة عموماً؛ لجهة حضور إيران وميليشياتها وما تبقى من وحدات عسكرية مبعثرة للنظام، ولجهة حضور «قسد» وما تعكسه المناطق التي تسيطر عليها من ولاءات متناثرة موزّعة على قوى محلية وخارجية.
ومنذ انطلاق الانتفاضة، وعلى وجه التحديد منذ آب (أغسطس) 2011 حين أقدمت عناصر استخبارات النظام العسكرية على استخدام الذخيرة الحية ضدّ المتظاهرين وقصفت مسجد حرويل؛ وبعدها، أواخر حزيران (يونيو) 2012، حين قصفت دبابات النظام أحياء المدينة الشرقية وأوقعت أكثر من 20 قتيلاً وعشرات الجرحى؛ لم تكفّ المدينة عن دفع أثمان باهظة من دماء أبنائها وخراب عمرانها (جسرها المعلّق التاريخي على نحو خاصّ) وآثار صراعات القوى المتقاطعة على أرضها.
وعلى سبيل رصد مفردات العيش اليومية، تكفي مقارنة الفارق في أسعار الموادّ الغذائية بين مناطق سيطرة النظام ومناطق نفوذ «قسد» كي تتضح معاناة سكان المحافظة، فلا يعود ينقص المأساة المفتوحة سوى صنوف البلاء التي يجلبها وجود الميليشات ذات التابعية الإيرانية، والدمار الإضافي الذي تتسبب به اعتداءات دولة الاحتلال. هذا بافتراض أنّ الحصار الذي كانت تعيشه المدينة، بين مطرقة النظام وسندان «داعش» أو العكس، قد انحسر اليوم ليخلي الساحة لأنماط أخرى من الحصار المباشر أو غير المباشر بين مطرقة النظام وسندان «قسد» أو العكس، هنا أيضاً.
وبلدة معيزيلة، في محيط مدينة البوكمال، مثال صارخ على طرائق الميليشيات ذات التابعية الإيرانية في فرض الوصاية وقهر السكان؛ ليس على مستويات سياسية فقط، بل الأخطر منها الحجر ومنع المغادرة، والتحكّم في البرامج التعليمية والثقافية والممارسات الدينية. ولم يكن من دون أسباب وجيهة أنّ عدداً من الناشطين السوريين أطلقوا حملة «هولوكوست دير الزور» في ضوء ما تعرضت له المحافظة من أعمال قصف وحشية تبادلت تنفيذها القوات الروسية وبوارجها في البحر، وقوات النظام السوري، وقوات التحالف بقيادة أمريكا وحلفائها، تكالبت على قرابة مليون مدني محاصر و 180 ألف نازح؛ والآن جاء دور دولة الاحتلال الإسرائيلي!.. أو، الأحرى القول إنّ القاذفات الإسرائيلية إنما تستأنف دورها في المحافظة ولا تبدأه من جديد، فهذه للتذكير هي المحافظة ذاتها التي شهدت القصف الإسرائيلي لموقع الكبر، في 6 أيلول (سبتمبر) 2007.
يومذاك، للتذكير المفيد، اخترقت قاذفات إسرائيلية حرمة الأجواء السورية من جهة الساحل، بعد أن اخترقت جدار الصوت على هواها، وحلقت فوق مساحات واسعة من المنطقة الشمالية ــ الشرقية، من بادية دير الزور إلى تخوم المثلث السوري ـ العراقي ـ التركي، مارّة بمطارَين عسكريين في الأقلّ؛ فقصفت الموقع المطلوب، بعد استلام توجيهات من عملاء على الأرض، وعادت أدراجها سالمة مطمئنّة. وها أنّ دير الزور تواصل، اليوم، موقع الشاهدة على مختلف ألوان البطش والقهر والتدمير، والشهيدة في هذا كلّه وعلى نحو متعدد تارة، ومتناوب طوراً، ومتبادل في أمثلة كثيرة. وبين تدمير موقع الكبر وفنجان قهوة بومبيو/ كوهين، ثمة قوس إسرائيلي لا تغيب عنه جرائم النظام وحلفائه ومسانديه، ولكن لا يُفتقد خلاله إباء المحافظة وأهلها وسمائها وأرضها.