من يقرأ مقالة الكاتب حازم صاغية المنشورة في جريدة (الحياة) بتاريخ 20/ 3/ 2018؛ يكتشف مدى بُعد الكاتب من المجتمع السوري، على الرغم من كثرة صداقاته مع السوريين، وكتاباته الكثيرة عن الشأن السوري التي لم تسعفه، على ما يبدو، في معرفة المجتمع السوري على حقيقته.
في مقالته الأخيرة، يؤكد صاغية أن المجتمع السوري شكّل “العدو الأشرس والأعنف” للثورة السورية، بوصفه “مجتمع الهويّات الكثيرة، هويّات الحدّ الأقصى المتناحرة في ما بينها: مرّةً بصمت ومرّةً بضجيج. مرّةً بأسمائها المباشرة ومرّةً من خلال يافطات أيديولوجيّة -عروبيّة وإسلاميّة وكرديّة- عابرة للحدود”.
الآن، بعد مرور سبع سنوات على اندلاع الثورة السورية، يحق لنا أن نسأل: هل كان النزاع في سورية نزاعًا على الهوية؟ أو كما يقول “صاغية” صراعًا بين الهويات المتناحرة؟ لو كان الأمر كذلك؛ لاستطاعت الطائفة السنية -وهي تُشكّل قرابة 70 بالمئة من سكان سورية- أن تخلق هوّية خاصة بها، وتغير تبعًا لذلك مجرى الأحداث في سورية، وفقًا لتلك الهوية. لكن هذا الأمر لم يحصل ولن يحصل، بالنظر إلى طبيعة المجتمع السوري الذي لم يعرف من الاستقلال، حتى يومنا هذا، صراعًا على الهوية بين مكونات الشعب السوري، بل كان صراعًا بين شعب وسلطة من أجل هوّية سورية حرّة، من أجل هوّية سورية اغتصبت بفعل الاستبداد السلطوي، على مدى أكثر من خمسين عامًا، هذا الاستبداد الذي دمّر الإنسان السوري من الداخل وحوّله إلى صحراء قاحلة.
فالمجتمع السوري المتعدد، إثنيًا وطائفيًا، لم يشهد منذ الاستقلال أيّ صراعات طائفية أو قومية، بل إن تلك التعددية التي تميز بها المجتمع السوري، وكان السوريون يتغنون بها، تُعدّ ثراءً وغنًى لا اختلافًا أو نزاعًا. وعلى الرغم من بروز الشعور بالانتماء الإثني لدى السوريين من العرب والتركمان والأكراد والأرمن والشركس والأشوريين، فإن هذا الشعور لم يتحول البتة إلى صراع إثني أو قومي، والقول نفسه ينطبق على الشعور بالانتماء الديني، فلم يتحول إلى صراع بين مكونات المجتمع السوري المسيحي والمسلم. وهناك أمرٌ مهم لا يجب إغفاله، وهو أن الطائفة السنية في سورية، بالرغم من تعدادها الكبير الذي يقارب نسبة 70 بالمئة من سكان سورية، لم تبنِ في المجتمع السوري سلوكًا شعبيًا، يوحي بهوية دينية إسلامية سنية مضطِهدة للمسيحيين أو للطوائف الإسلامية الأخرى، من علويين وإسماعيليين شيعة ودروز، وهؤلاء بدورهم لم يشعروا بأنهم مغبونون، تجاه الطائفة السنية الأكبر.
لا يعتقد السوريون بوجود صراع بين الهويات، سواء الدينية أو القومية، في سورية على النحو الذي أشار إليه صاغية، وما يُحكى عن صراع وتناحر هويّات ليس إلا مجرد افتعال سياسي، ليس له أساس مجتمعي في المجتمع السوري، ولم يشعروا بصراع هوياتي كهذا، بل على العكس من ذلك، كانوا يشعرون بوجود صراع الحرّية بين الشعب السوري بمختلف مكوناته، وبين سلطة الاستبداد.
ما حدث معي ومع ابنتي، ومع الكثير من المسيحيين، يجعلني أنفي نفيًا قاطعًا وجود صراع على الهويّات، أو أنها كانت سببًا مباشرًا للمأساة التي تعيشها سورية، ولو كان هناك صراع على الهويات؛ لما كانت ابنتي تجرؤ على الذهاب إلى مدينة خان شيخون أو مدينة الرستن، في عام 2012؟ لقد حدثتني ابنتي عن الحفاوة والاستقبال التي لقيتها، في خان شيخون والرستن، وكيف أنهم أكرموا وفادتها لأيام عديدة، وكأنها ابنتهم، وكيف عاملتها تلك السيدة المحجبة في خان شيخون، عندما استقبلتها بحفاوة في بيتها، وهيأت لها منامة مريحة على السرير المخصص لطفليها، بينما هي وطفلاها نامت على الأرض، وكيف أعدّت لها “زوادة الطعام”، عندما حان وقت مغادرتها، وهي تقول لها: “خذي هذه الزوادة معك فقد تجوعين على الطريق في هذه الظروف الصعبة”. فلو كان صراع الهويات الدينية موجودًا، فهل كان سيسمح بتلك المعاملة والمشاعر الطيبة أن تظهر بين منتمي الهويات المتناحرة؟
هناك أمثلة واضحة وضوح الشمس تنفي وجود صراع هويّات، فعندما اشتد القتال في مدينة حلب، وقُسمت إلى قسمين شرقية وغربية، لم يكن الانقسام على طريقة الانقسام الهويّاتي لبيروت خلال الحرب الأهلية، وإنما كان انقسامًا سياسيًا؛ إذ هرب مئات الآلاف من سكانها ولجؤوا إلى مدن الساحل. وكذلك عندما لجأ عشرات الآلاف من درعا إلى السويداء ذات الهوية المختلفة عن درعا، فهل تلجأ هويّة إلى هويّة متناحرة معها على نحو ما يذكر صاغية، عن التوتسي والهوتو في رواندا!
يبدو أن صاغية لم يستطع أن يخرج، في تحليله للحالة السورية، عن الحالة الطائفية المتجذرة في لبنان، وفاته أن الحالة اللبنانية احتاجت إلى أكثر من مئة عام، حتى ظهرت بالشكل الذي نراه اليوم، وأن الأمر في سورية يختلف اختلافًا بينًا عما حدث في لبنان، وهذا لا ينفي سعي بعض الدول المتدخلة في سورية إلى تشكيل هويات مختلفة، كالهوية الكردية الخالصة التي يسعى إلى تشكيلها الأميركيون في الشمال السوري، والهوية السنية التي تعمل عليها تركيا، والهوية الشيعية التي تحاول إيران تشكليها، والهوية العلوية بدعم روسي، ولكن تشكيل هذه الهويّات المتناحرة سيحتاج إلى عشرات السنين، حتى تصل إلى الشكل الهويّاتي المتجذر والمتناحر في لبنان.
أما بالنسبة إلى ما آلت إليه الأوضاع في سورية، من خراب ودمار في النفوس والممتلكات، فلا يتحمّل وزرَه الذين ثاروا ضد نظام مستبد، ولا المجتمع السوري الذي حاول الخروج من حالة التصحر السياسي والفكري، التي فرضت عليه خلال الخمسين سنة الماضية، بل يتحمله النظامُ الاستبدادي الذي قاوم، بعنف لم يسبق له مثيل، محاولةَ المجتمع السوري إقامة دولة مؤسسات وقانون، تحترم أبناءها وتقف على مسافة واحدة منهم، بعيدًا عن شعار “الأسد إلى الأبد” و”الأسد أو نحرق البلد”. كما يتحملها المتدخلون والمحتلون من دول إقليمية ودولية، الذين سعوا بكل قوة لمنع الشعب السوري من الانتصار، في أول تجربة ثورية من نوعها في العالم، خرجت من قلب مجتمع كان يعيش في حالة من التصحر السياسي والفكري والاستعباد والاستبداد، على مدى عشرات السنوات.
لقد بات الحل في سورية، نتيجة تلك التدخلات والاحتلالات، مرهونًا بطبيعة مآل التجاذبات الدولية ومسار المتصارعين في سورية وعليها، وبمدى قدرة السوريين على استعادة هويتهم الضائعة وصياغة عقد وطني جديد، يساعدهم في الخروج من هذه المأساة الرهيبة.