بقلم نشمي عربي (كاتب سوري مقيم في واشنطن)
أعترف بدايةً وبكل شفافية أنني لست من المتيمين بالمرحوم أكرم الحوراني، لأنني أرى فيه المسؤول الأهم عن إدخال الجيش السوري معترك السياسة، حيث وصل هذا الجيش في مراحل لاحقة إلى إدمان السياسة حتى الثمالة و بشكل (سرطاني مريضي) ولاتزال سورية كلها تدفع أثمان غالية حتى اليوم. أؤمن بجيش وطنيٍ محترف يسمو بواجبه الوطني فوق دكاكين السياسة، عقيدته وطائفته سورية، كل سورية، ونقطة على السطر.
إدمان العسكر للسياسة تزامن دوماً مع إدمان السياسيين للعبة (تذاكي) سمجة يلعبونها مع العسكر، فعندما تضيق بهم السبل ويعجزون عن إحداث النقلة التي يصبون لها، تجدهم يرسلون خطاب ( فتنه وإغراء ) يدعون فيه العسكريين للتدخل، وبعد أن يحدث ذلك، يتحول هؤلاء السياسيين أنفسهم لمدافعين ومنافحين عن (مدنية) الحياة السياسية السورية،
ويتركز دأبهم وجهدهم كله على إعادة العسكر لثكناتهم، وكأنهم لم يدعوهم هم في الأمس القريب إلى ( اللعبة الحرام) بميكافيللية ووصولية لافتة من طرف أهل السياسة، تستغل حالة (شبق) لافت عند العسكريين للسلطة.إنها خيرات الحوراني …. في الوقت الذي لا يتورع فيه أهل السياسة عن أن يتمنوا في جيشهم قطاً من خشب … يصطاد .. و لا يأكل … يصنع التغيير السياسي ولا يشارك في السلطة .في (سن اليأس) الذي تعيشه السياسة السورية اليوم ( Political menopause ) ، نظاماً ومعارضات، تعود دعوات بعض أهل السياسة للعسكر للطفو على السطح بشكل لافت، بعضها على شكل الدعوة لإنشاء مجلس عسكري انتقالي يقود عملية إنتقال سياسي في سورية. الأمر برمته، لي منه موقفان، عام وخاص. في الموقف العام فأنا سأبقى دوماً مؤمناً بسورية تنعم بحياة سياسية ليبرالية مدنية أهلية، دور الجيش الوحيد فيها هو أن يكون راعياً وضامناً لللعبة الديمقراطية، لا طرفاً فيها، ولا متدخلاً .. في الموقف الخاص الذي يراعي حالة الإنسداد السياسي القاتل الذي يشل أي حراك سياسي باتجاه انتقال سياسي ما يحافظ على ماتبقى من بنية الدولة، ويحفظ دماء وكرامة وسبل عيش السوريين، بعد أن تشتتت بهم السبل، وبالنظر للبنية العسكرية الفريدة لطبيعة النظام في سورية، والتي يتداخل فيها الشأن العسكري بالطائفي بالسياسي، فلربما كانت فكرة المجلس العسكري الإنتقالي المؤقت هي أكثر الأمور واقعيةً كحل إنقاذي مؤقت يضمن الإنتقال لنظام سياسي مدني على أسس يجتمع عليها السوريون، وفِي نفس الوقت يحفظ السلم الأهلي وسيادة القانون والنظام العام، والأهم من كل ذلك يحفظ ماتبقى من بنية الدولة ، إضافةً لدوره الطبيعي في حماية حدود وكيان البلد.
هنا لابد من وقفة هادئة وواعية وصريحة، لطرح التساؤل المحق التالي: هل الظروف الدولية اليوم مهيئة للتوافقات الضرورية ليتم الإعتراف بمجلس كهذا؟ وهل الدول المحيطة بسورية والتي استقر الأمر فيها على وضع ثقلها السياسي واللوجستي في فصائل دون غيرها تتبع لها وحدها وتنفذ أجندتها، ستقبل بمجلس كهذا؟ أو تسمح له بأي وجود فاعل على أراضيها؟ وهل نضجت ظروف الداخل ليتم التوافق بين عسكريي الخارج وإخوتهم من عسكريي الداخل الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين لإعطاء دفعةٍ لمجلسَ كهذا؟ في الوقت الذي أنحني فيه لأقبل بكل إجلال وإكبار يد كل جندي وصف ضابط وضابط من جيشنا السوري رفض أن تتلطخ يداه بدماء أي سوري آخر، وكان وفياً لقسمه وشرفه العسكري، من الذين اضطروا للمغادرة وتحمل شظف عيش المنفى، أو القابضين على الجمر في قطعاتهم في الداخل، فإنني أضنُّ وأربأُ بهذه القامات أن تكون رقماً في حُمَّى مزادات سياسية تبحث لها عن روافع في صفوفهم بعدما تعذر عليها ذلك في صفوف المدنيين.أربأُ بجنودنا وصف ضباطنا وضباطنا الشرفاء أن يعطوا الفرصة لأيٍ كان .. ليبيعهم المطر .. في نفس الوقت فلاضير أبداً في أن يوحد العسكريين صفوفهم في منظومةً متماسكة ذات طابع سياسي أكثر منه عسكري،
تعبر عنهم وتوحد صفوفهم وتوظف طاقاتهم، مستفيدةً من روح العطاء والشرف العسكري وطبيعة الإنضباط التي تميز نشاط العسكريين عادةً ، في حيث إذا سمحت الظروف المحلية والإقليمية والدولية ونضجت شروط ولادة مجلس عسكري انتقالي فيكون هذا الجسم القائم والمنتظم هو قاعدته ونواته. جسمٌ سياسي متماسك للعسكريين كهذا قد يغري القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الشأن السوري بالإعتراف به والتعامل معه، وقد يكون لأدائه المنضبط دوراً في أن يكتسب شرعيةً بدأت تخسرها بشدة أغلب المكونات المعارضة القائمة اليوم.
أعلم أن مايتم طرحه وتداوله بشدة مؤخراً حول المجلس العسكري الإنتقالي يدغدغ وبشدة نفوس الكثير من العسكريين والمدنيين، في ظل حالة الإحباط التي يعيشها السوريون، ولكنني أتمنى جاهداً وصادقاً أن يكون أي تحرك لهذه الشريحة الحيوية والمهمة من شعبنا مستنداً لحسابات وتكتيكات أمينة وحقيقية …. أوليس التكتيك في النهاية هو أحد أهم علوم العسكريتاريا؟