حسن النيفي
ما جرى في مدينة منبج الإثنين الماضي 31 – 5 – 2021، ليس نتيجة لنزاع قومي أو طائفي أو مذهبي، وليس كذلك نتيجة لاحتراب سياسي بين أطراف داخل المدينة، بل هو بكل وضوح احتجاجات شعبية عبر خلالها أهالي المدينة عن مطالب حياتية ومعيشية، وكذلك عن مطالب أخرى ذات صلة بالبنية الثقافية والاجتماعية لسكان مدينة منبج.
ولئن كانت مسألة التجنيد الإجباري التي حاولت سلطات قسد فرضها على المواطنين، هي القشة التي قصمت ظهر البعير، فإنه يمكن التأكيد على أن ثمة إرهاصات كثيرة ظهرت بوادرها منذ العام 2017، أي بعد مرور سنة على طرد تنظيم داعش من منبج، تؤكّد تلك الإرهاصات أن السياسات الاقتصادية والتعليمية والأمنية التي تمارسها قسد، ليس على منبج فحسب، بل على كل المدن والبلدات التي تقع تحت سيطرتها،
سوف تفضي في النهاية إلى تذمّر سكاني ربما انتهى إلى غضب عارم لا يمكن التكهّن بحدود تداعياته.
لسياسات التي تحاول قسد تنفيذها لم تكن مستمدّة من مرجعيات محلية تلبي حاجة سكانية حياتية، وتنسجم بالوقت ذاته مع القيم والثقافات المحلية لسكان تلك المناطق
ل
بالطبع نحن لا نتحدّث عن مجرّد ظاهرة نفسية، بل ما يعنينا هو التداعيات الحسية لتلك الظاهرة، والتي تجسّدت في سلوك (الإدارة الذاتية)، وفي تصورها الذي يختزل مدينة منبج بـ (بقرة حلوب) عليها أن تدرّ على مالكها أضعاف ما يُطعمها، ولكن يبدو أن من يدّعي ملكيتها لم يعد قانعاً بامتصاص خيراتها فحسب، بل يريد أن يجعل من أبنائها وقوداً لحروبه ومغامراته التي لا تخدم إلّا أجنداته العابرة للوطنية، ولعل هذا ما دفع إلى انفجار شعبي عارم، ربما فاق تصورات قسد، وتجاوز احتياطاتها الأمنية، إلّا أن السؤال الذي ما يزال يباغت الجميع: لماذا انطفأ هذا الغضب الشعبي العارم، بينما بواعثه ما تزال محقونة تتأجج في النفوس؟
إن وجود قوات النظام على بعد 15 كم عن مركز المدينة، بات أداة تهديد تلوّح بها قسدربما يكشف الحراك الشعبي في منبج خلال يومي (31 – 5 – 1 – 6 ) من جديد عن حالة (اليُتْم) التي يشعر بها جميع من ثاروا وانتفضوا بوجه نظام الأسد، أعني غياب المظلة الوطنية التي تؤطّر هذا الحراك لتكون ثماره رافدةً ومُعَزِّزةً لتطلعات المتظاهرين والثوار نحو التحرّر من العبودية والاضطهاد، لكن يبدو أن الخيارات كانت قليلة،
بل محدودة جداً أمام أهلنا في منبج، ولئن كان التظاهر والاحتجاج ومواجهة الرصاص الحي هو خيارهم الوحيد في مواجهة الجور والاضطهاد، وهذا ما تحقق بالفعل، إذ سقط خلال يومين خمسة شهداء، وأُصيب ما يقارب العشرين من السكان المتظاهرين، إلّا أن آمالهم المرجوّة من وراء تلك التضحيات سرعان ما تصطدم بواقع موجع ومرير، ذلك أن مدينة منبج باتت تؤوي أكثر من مليون مواطن، أكثرهم قد توافدوا إليها نازحين من مختلف المدن والبلدات السورية هرباً من بطش نظام الأسد، فهي باتت بالفعل بؤرة اكتظاظ سكاني كبير، تحاصرها قوات الأسد المدعومة روسياً وإيرانياً من جهتي الجنوب والغرب، بل إن وجود قوات النظام على بعد 15 كم عن مركز المدينة، بات أداة تهديد تلوّح بها قسد، مؤكِّدة على الدوام: إن تجاوز صوتكم حدود صبرنا، فستكون مدينتكم مشرعة الأبواب أمام قوات الأسد، وما يعزّز مخاوف السكان هو قيام نظام الأسد بتحريك شبيحته وأدواته، والدفع بهم نحو اختراق الحراك الشعبي، من خلال بعض الرجالات العشائرية التي ما تزال ترفع ولاءها له، وتحاول الدفع باتجاه التصعيد، داعية المواطنين إلى حمل السلاح، سعياً إلى تحويل التظاهر الشعبي إلى حالة احتراب وقتال بين الأهالي في المدينة، لعلّ هذا الاقتتال واللجوء إلى مزيد من العنف يتيح فرصة طالما انتظرها نظام الأسد، وهي اجتياح المدينة بحجة عدم قدرة قسد على تأمين الحماية والاستقرار للمواطنين.
ما حدث في منبج من حالة انفجار شعبي ربما ينتهي إلى تسوية بين المواطنين والسلطة القائمة، وهذا ما هو مُرجّح، بغض النظر عن مضامين تلك التسوية، وسواء أحققت مطالب المتظاهرين أم لا، وستعود المدينة إلى حركتها المعتادة، ولكن ثمة ما هو باق وباعث على مزيد من القلق والخوف لدى جميع سكان مدينة منبج، أعني البقاء ضمن حالة (القبول بما هو موجود خشيةً من الأسوأ).افتقاد المظلة السورية الجامعة ذات الحوامل الوطنية، وغياب المشروع الوطني الذي يستقطب القوى والفعاليات الثورية المتناثرة، هو الباعث الحقيقي على حالة القنوط والإحباط والقبول بالسيئ الراهن لدى شرائح واسعة من جمهور الثورة، كما ساهم هذا الافتقاد أيضاً بإجبار المواطنين على الامتثال، بل ربما الإذعان في كثير من الأوقات، لقوى أو سلطات الأمر الواقع، تلك السلطات التي لا تستمد تغوّلها وتنمّرها على المواطنين والتحكم بمصائرهم، إلّا من ضمور أو غياب المشروع الوطني وحوامله النظيفة