معتز الخطيب
حملت الأيام القليلة الماضية خبرين من المهم التوقف عندهما، الأول: تحالف الإسلامي منصور عباس مع نفتالي بينيت (يميني عنصري) ويائير لبيد (علماني يهودي) لتشكيل حكومة إسرائيلية جديدة بعد الإطاحة ببنيامين نتنياهو.
والثاني: أن ممثل حركة حماس في اليمن (معاذ أبو شمالة) زار محمد علي الحوثي، أحد قيادات جماعة الحوثي (أنصار الله) في صنعاء، وسجل كلمة يثني فيها على جهود الجماعة، ويدعو الله أن يتوج العلاقة بين حماس وأنصار الله، وأن يجمعهم في طريق “التحرير والنصر”، وقدم للحوثي -خلال اللقاء- درع حركة المقاومة الإسلامية.
ومن الطريف أن النزعة التبريرية دفعت بعضهم إلى نفي وجود تمثيل لحماس في اليمن أصلا، ولكن بعد الانتقادات التي وُجهت لحماس صدر بيان اعتذاريّ يوضح أن حماس تقف على “مسافة واحدة” من مختلف الأطراف في اليمن، وهو التعليل نفسه الذي استُخدم في أماكن أخرى لتسويغ العلاقة بإيران والنظام السوري.
المنطق البراغماتي لا يحجزنا عن المقارنة بين تحالف منصور عباس مع الإسرائيليين للإطاحة بنتنياهو، وتحالف حركات المقاومة مع إيران لدعم مقاومة الاحتلال، مرورًا بتوثيق العلاقة مع محورها (نظام الأسد وحزب الله والحوثيين)؛ لأن كلا الطرفين يمارس -في الواقع- سياسة مصلحية، كلٌّ من موقعه ووفق حساباته وتقديره للمصالح والمفاسد.
لم ترَ مواقع سعودية (كالعربية) ومصرية (كصحيفة الوفد) من الخبر الأول إلا أن صاحبه “إخواني” يتحالف مع إسرائيليين لتشكيل حكومة؛ بغرض المناكفة في الخصومة، وتبرير حملات التطبيع السابقة. فرغم أن منصور عباس “ابن دعوة” -كما يقول الفلسطينيون- وتربى في كنف الحركة الإسلامية، فإنه ليس إخوانيًّا؛ لأنه ينتمي إلى الجناح الجنوبي للحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة 1948، الذي انشق عن الجناح الشمالي الذي يمثله الشيخان رائد صلاح وكمال الخطيب،
وهما في سجون الاحتلال.أما الخبر الثاني فيؤكد مناقشتنا السابقة حول تصريحات قيادات حماس (إسماعيل هنية ويحيى السنوار وأسامة حمدان) الخاصة بإيران وسوريا، وهو يؤكد -مجددًا- عمق الإشكال الذي طرحناه؛ فالمسألة ليست مجرد تصريح هنا أو شكر هناك، وهو ما يصعّب الموقف على الاعتذاريين، سواءٌ ممن فصلوا بين العلاقة مع إيران والعلاقة مع النظام السوري، أو ممن تحدثوا عن فعل تمليه ضرورات السياسة؛ خصوصًا أننا -من الناحية السياسية- أمام محور واحد؛ هو محور إيران وتوابعها، وأننا -من الناحية الفكرية- أمام وقائع يجمعها سؤال إشكالي واحد، وهو معايير تقويم الممارسة السياسية (الإسلامية) وما يميزها عن (غير الإسلامية).
هذا هو محل النقاش هنا وفي المقالات السابقة، بعيدًا عن النظرين السياسي والحزبي اللذين يتكلفان التمييز بين القضايا المتشابهة بشكل لا يتسق مع النظرين الفكري والأخلاقي.
وسؤال تقويم الممارسة السياسية (الإسلامية) قد يدفع إلى استحضار تجارب سابقة للإسلاميين، كحزب النور السلفي في مصر بعد انقلاب 2013، وحركة مجتمع السلم في الجزائر بعد انقلاب 1992، وإخوان مجلس الحكم الانتقالي في العراق، وإخوان السودان، بل وإيران وتوابعها أيضًا؛ لأنها تحيل إلى طيف واسع ومتنوع من الممارسة السياسية الإسلامية.والآن، لنعد إلى الخبرين السابقين، فهما يُعيداننا -مجددًا- إلى سؤال العلاقة بين السياسة والأخلاق، وهو ما يؤكد أن زاوية نظري هنا أوسع من عدسة الإخوان وحماس حتى نتجنب “تحريش” الخصوم واعتذاريات الحزبيين، ونتقدم خطوة في سبيل النقاش الفكري والأخلاقي. وبالإضافة إلى المنظور الأخلاقي-السياسي الذي نطرحه يجدر بنا أن نستحضر رؤيتين أخريين للموضوع؛ تنظر أولاهما إلى الأمر من منظور إسلامي/علماني، لتخلص إلى ضرورة “تحرير الدين من استغلال السياسة”؛ لأن صراع هذه الحركات الإسلامية إنما هو صراع سياسي فيجب أن يبقى كذلك. ومن الملفت أن هذا المنطق يلتقي -نظريًّا على الأقل- مع رؤية إسلاميين يعتذرون لحماس وغيرها؛ بحجة أننا أمام فعل سياسي ولا يمكن مقاربته أخلاقيًّا.أما الرؤية الثانية، فتنظر إلى الأمر من زاوية سعة التأويلات الدينية القادرة على تقديم تسويغ “شرعي” لكل هذه الممارسات السياسية (الإسلامية) على تنوعها، من حركات مقاومة وحركات سياسية سلمية وأخرى جهادية تكفيرية، وعلى رقعة جغرافية واسعة من فلسطين إلى مصر والجزائر والعراق والمغرب والسودان وغيرها.
وفي رأيي أن الرؤيتين السابقتين تعيداننا إلى إشكالية العلاقة بين السياسي والأخلاقي؛ لأن المشكلة لا تتمثل في “أسلمة” الممارسات السياسية حتى يكون الحل في “علمنتها”. وحتى سؤال النص والتأويل الذي يصوغ “المبررات الشرعية” لأي ممارسة سيردنا مجددًا إلى السؤال الأخلاقي الذي يرى أن ثمة حاجة دومًا إلى تقديم مسوغات قيمية لأي فعل بشري، ومن ثم فلا معنى لفعل سياسي من دون تقويم، وإن كان الجدل يمكن أن ينشأ هنا حول معايير التقويم ونوع الحجج التي تقدم لهذا الفعل أو ذاك، وهل نقوّمه بمعايير السياسة (الفعل النافع = البراغماتي) أم بمعايير الأخلاق (الفعل الصالح)؟
ولكن المنطق البراغماتي لا يحجزنا عن المقارنة بين تحالف منصور عباس مع الإسرائيليين للإطاحة بنتنياهو، وتحالف حركات المقاومة مع إيران لدعم مقاومة الاحتلال، مرورًا بتوثيق العلاقة مع محورها (نظام الأسد وحزب الله والحوثيين)؛ لأن كلا الطرفين يمارس -في الواقع- سياسة مصلحية، كلٌّ من موقعه ووفق حساباته وتقديره للمصالح والمفاسد.ينطلق عباس -مثلاً- من مفهوم “الأمر الواقع” في ظل دولة احتلال هو مواطن فيها، ويقصد إلى تحقيق مصالح فلسطينيي 1948 (حفظ الحقوق وتوفير الخدمات والوظائف وتقليل مفاسد التمييز العنصري والإقصاء من الوظائف العامة…)، أي إنه يتحرك -من وجهة نظره- في حدود الممكن، وبقدر ما تسمح به البيئة السياسية الإسرائيلية. ويبدو أن لعباس مؤيدين كثيرين؛ لأن حزبه (القائمة العربية الموحدة) فاز بـ 5 مقاعد في الانتخابات الأخيرة في برلمان مؤلف من 120 مقعدًا، ويحتاج أي رئيس وزراء إسرائيلي إلى 61 صوتًا لتشكيل حكومة، وهو ما جعل منه رقمًا مؤثرًا في الإطاحة بنتنياهو وتشكيل حكومة جديدة؛ حتى أطلق عليه الإسرائيليون لقب “صانع الملوك”.
وفي المقابل، فإن الأمر نفسه يقال عن تحالف المقاومة مع إيران في ظل “أمر واقع” تكالب فيه العدو وتخاذل فيه الصديق؛ للحفاظ على فعل المقاومة، وما ينبني عليه من مصالح ودرء مفاسد، وكلا الطرفين يشكل استجابة ما لواقع فلسطيني محدد في زمان محدد، ولكن من موقعين مختلفين جغرافيًّا وسياسيًّا وأيديولوجيًّا.
لم يجد الإسلاميون بُدًّا من الانفتاح على المصالح بوصفها أداةً لتسويغ الممارسة السياسية وإضفاء طابع أخلاقي (إسلامي) عليها، خصوصًا مع الانتقال من الأيديولوجيا إلى العمل السياسي الذي فرض استحقاقات عملية .
من المنظور البراغماتي تذوب الفوارق بين الفعلين؛ لأن محور التفكير البراغماتي هو الفاعلية والتركيز على الجانب العملي، وأن المنفعة هي التي تصحح الفعل وتضفي عليه قيمة. وفعلا الطرفين الفلسطينيين المشار إليهما يخضعان للمنطق نفسه مع اختلاف موقع كل طرف منهما (أراضي 48، مقابل ما يطلق عليه “الأراضي الفلسطينية”) واختلاف الفاعلين واختلاف الجمهور الذي يُراد تحقيق مصالحه، بل إن المنظور البراغماتي قد يجعل من موقف عباس شكلاً من أشكال المقاومة “من الداخل” عبر اللعب على تناقضات الاحتلال وفق قواعد اللعبة السياسية التي جمعت بين تركيبة متنافرة: اليميني العنصري، واليهودي العلماني، والإسلامي. وفي المقابل، تقدم حركات المقاومة صيغة المقاومة المسلحة التي ترى أولوية العسكري، بحيث يكون السياسي خادمًا له ومسوّغًا لأي دعم يأتيه مهما كانت التكلفة والتناقضات، ومن هنا يستثمر الجناح السياسي للمقاومة في تناقضات المصالح بين دول المنطقة، وهنا تكمن أهمية إيران التي يساعدها كونها دولة مارقة دوليًّا على تجاوز قواعد المسموح به دوليًّا وتزويد المقاومة بالسلاح بيد، وإنشاء المليشيات الطائفية في عدد من البلدان الإسلامية السنية باليد الأخرى.
في منتصف السبعينيات ميز المفكر القومي ياسين الحافظ بين ما أسماها “الواقعية الثورية” و”الرومانسية الثورية”، وقال إن الواقعية منحته “أدوات جديدة في التقييم السياسي” لم يكن لها اعتبار في الرومانسية. وتتضمن هذه الأدوات مقولات: ميزان القوى، والمصلحة، والفائدة، ومفاعيل الزمن (وقد نبَّهَنا إلى هذه الإحالة ماجد كيالي). ولكن بالتوازي مع ذلك شكلت المصلحة أداة مركزية من أدوات مشروع الإسلام السياسي، والتي جرى الاهتمام الكثيف بها منذ تسعينيات القرن الماضي واتسعت بعد ثورات الربيع العربي لتشمل الأحزاب الإسلامية في جنوب شرق آسيا أيضًا (إندونيسيا وماليزيا).
لم يجد الإسلاميون بُدًّا من الانفتاح على المصالح بوصفها أداةً لتسويغ الممارسة السياسية وإضفاء طابع أخلاقي (إسلامي) عليها، خصوصًا مع الانتقال من الأيديولوجيا إلى العمل السياسي الذي فرض استحقاقات عملية. فمن جهة، مكنت فكرة المصلحة من تسويغ الممارسات السياسية المختلفة داخليًّا عبر تلبية بعض الاحتياجات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومن جهة ساعدت على التمييز بينها وبين الجماعات الجهادية التي ترفض العمل السياسي جملة وتفصيلاً، ومن جهة ثالثة مكنت من إقامة علاقات إيجابية مع دول وأطراف عدة،
مع الاحتفاظ بمقولة إن هذه الممارسة المتشعبة للسياسة تنسجم مع الفكرة العامة لمقاصد الشريعة.حظيت تطبيقات الإسلام السياسي لفكرة المصالح أو المقاصد باهتمام بعض الدارسين كديفيد وارن (David Warren) الذي درسها من خلال مشروع راشد الغنوشي، ورأى أن المقاصد لا تعكس براغماتية لديه بل تطورًا في خطابه السياسي الذي يسعى إلى “حداثة حقيقية” تتوافق مع حاجات وقيم المجتمع المحلي.
وحليم رين (Halim Rane) الذي درسها لدى الأحزاب الإسلامية في جنوب شرق آسيا، ورأى أن منهج المقاصد ستكون له انعكاسات عميقة على مفهوم الإسلام وتطبيقاته الاجتماعية والسياسية، وأنها ستقود إلى ظهور “الديمقراطية الإسلامية” بعد الثورات.وبعيدًا عن خلاصات هاتين الدراستين التي هي محل نظر، تنبع أهمية المصالح أو المقاصد من كونها أداة مرنة كما اكتشف -بحق- ياسين الحافظ في واقعيته الثورية، وكما لاحظ -بحق- عبد الله العروي في 2008، حين اكتشف أن الذي يحرك المجتمع المنفعة لا الحق.
بل إن الشيخ يوسف القرضاوي ذهب أبعد من ذلك حين رأى في 1997 أن “فلسفة كل شيء أو لا شيء مرفوضة شرعًا وواقعًا”.ومرونة المصلحة هي التي دفعت النهضويين للاستنجاد بها لتوطين بعض الأفكار الحديثة في الإصلاح السياسي مع رفاعة الطهطاوي الذي بحث أفكار الحرية والدستور، وخير الدين التونسي الذي بحث أهمية المنافع العمومية أو المصالح العامة، وبناء مؤسسات الدولة، كما دفعت الإصلاحيين إلى شرعنة أفكار الإصلاح الديني كما فعل محمد عبده ومدرسته حين استثمروا المصالح أو المقاصد للخروج من قيد التقليد الفقهي عبر توسيع الاجتهاد والتلاؤم مع الأفكار الأوروبية الحديثة.
كان الشيخ يوسف القرضاوي واعيًا لأهمية وخطورة فكرة المصالح فيما يبدو، ففي التسعينيات قدم تأصيلاً شرعيًّا لمشاركة الإسلاميين مع غيرهم في الحكم، فقال “من لم يستطع أن يصل إلى الحكم وينفرد به من الجماعات الإسلامية -كما هي الحال في أكثر البلاد الإسلامية اليوم- فلا مانع أن ينزل على حكم الواقع ويرضى بالمشاركة مع غيره إن كان من وراء ذلك خير للأمة”.ولكنه جعل ذلك مشروطًا بشروط أربعة:
(1) أن تكون المشاركة حقيقية،
(2) وألا يكون الحكم موسومًا بالظلم والطغيان معروفا بالتعدي على حقوق الإنسان، ومن هنا “لا يجوز للمسلم الملتزم ولا للجماعة المسلمة الملتزمة أن يشاركا في حكم دكتاتوري متسلط على رقاب الخلق، سواء كان حكم فرد مطلقًا أو حكمًا عسكريًّا معتسفًا”،
(3) وأن يكون له حق معارضة كل ما يخالف الإسلام مخالفة بيّنة، أو على الأقل التحفظ عليه، وضرب مثلاً لذلك بالاتفاق مع إسرائيل والاعتراف بما اغتصبته من فلسطين وترك القدس لها،
(4) وأن يقوّم المشاركون في الحكم تجربتهم بين الحين والآخر ويُخضعوها للاختبار والمراجعة.يبدو القرضاوي هنا حريصًا على الموازنة بين المبدأ والمصلحة حتى لا يقع في التصور البراغماتي، وحتى يحافظ على شرعية وصف “الإسلامي” لدى الحركات الإسلامية الذي هو ذو مضمون أخلاقيّ أساسًا، ولذلك حاول ضبط التناقض بين الواقع والواجب عبر أمرين:
(1) ربط الواجب بالقدرة (الواجب هو الممكن فعله)،
(2) وبشرط تعلقه بتحصيل قيمة أعلى (خير للأمة)، أي إن المسألة هنا ليست براغماتية بل غائية.
لكن إذا طبقنا شروط القرضاوي للمشاركة في الحكم على تحالف عباس مع الإسرائيليين أو تحالف حركات المقاومة مع إيران ستفشل في اكتساب شرعية أخلاقية، وهو محل النقاش اليوم: ما المعايير الضابطة لممارسة المصلحة في المجال السياسي؟ طبعًا سيضطر الاعتذاريون إلى التمييز هنا بين المشاركة في الحكم، والمشاركة في المقاومة؛ رغم أننا نبحث في الفعل السياسي جملةً.ولا بد من القول: إن استثمار المصلحة في السياسة ليس جديدًا، فقديمًا أدرك ابن عقيل الحنبلي (513هـ) أن السياسة أوسع من الشريعة (وللفقهاء مفهومهم للسياسة)، وقامت في مواجهة السياسة السلطانية السياسةُ الشرعية التي تكتسب شرعيتها من مرجعية الشريعة ونظامها الفقهي، ولكن وجه الإشكال في تطبيقات المصلحة في السياسة اليوم تكمن في التحولات التي أصابت الدولة والسلطة.
فالمناقشة الفقهية الكلاسيكية حول السياسة المصلحية كانت تتم في ظل وجود دولة -بالمعنى التاريخي- أما مناقشات الإسلاميين اليوم فقد طرأ عليها أمران جديدان: الأول أنه تم نقلها من مجال الانضباط الفقهي والأصولي إلى السيولة السياسية مع الحركيين، والثاني: أنها تحولت من كونها سياسة سلطانية أو إمامية في عصور ما قبل الدولة الوطنية إلى الممارسة السياسية للحركيين في ظل الدولة الوطنية وأنظمتها، وهذا أفرز المشكلات الآتية
الثانية: أنه لا يمكن تقرير المصالح إلا بشرطين: فهم الواقع تشخيصًا، وفهم الواجب تحصيلاً. فإن وقع الخلاف حول تصور الواقع والواجب والممكن أو تعددت الممكنات نفسها، ووقع الاختلاف في وسائل الموازنة بينها، أو الموازنة بين الواجب والواقع، لا بد أن يقع الاختلاف في تحديد الواجب في الواقع، ومن ثم ستتناقض المصالح ونكون أمام مصالح شرعية سائلة. وهذا يفسر كيف أثر غياب المنهجية (معايير تحديد المصلحة) وغياب وحدة السلطة (القائمين على رعاية المصلحة) في اتساع المصالح وتناقضها.
الثالثة: يقودنا تناقض المصالح إلى سؤال مركزي يتعلق بالفرق بين ما هو سياسة إسلامية وسياسة غير إسلامية في حقل الممارسة، وهل هذا التناقض سيضفي شرعية متساوية على جميع التقديرات المتاحة للمصالح؟ وهل تستوي في ذلك الحركات الإسلامية والأنظمة السياسية القائمة أيضًا؟
فإذا كان الاختلاف سينحصر فقط في اللغة الدينية بلا مضامين، فما الإضافة التي سيقدمها الحزب أو الحركة التي تنتسب إلى الإسلام؟ ففي ظل غياب الفوارق -في ميدان الممارسة- يصبح من المشروع الحديث عن تحرير الدين من السياسة، وأن تتخلص هذه الحركات من لافتة “إسلامي” وأن تخوض صراعاتها السياسية على أرضية سياسية واضحة.وإذا كان النظر الأخلاقي يفرض الموازنة بين الواقع والواجب، وأن الواجب لا يتحقق إلا من خلال الممكن، فلا بد من توضيح أنه ليس كل ممكن جائزًا أو أخلاقيًّا، وهذا ينطبق على مختلف ألوان النشاط الإنساني، وليس فقط العمل السياسي، وهذا ما يُفترض أن يميز بين الإسلامي وغيره،
ولكن تحديد (الواجب) اليوم في المجال السياسي متأثر بالأيديولوجيا أكثر مما هو مستند إلى بنية أخلاقية يشترك فيها المسلمون أو حتى أفراد المجتمع المحلي؛ ما دمنا نتحدث عن عمل سياسي صراعي وتنافسي.بالتأكيد ثمة أفكار ومقولات فقهية كلاسيكية يمكن الاستعانة بها لتسويغ هذا الموقف أو ذاك، وتحديدًا للإمام العز بن عبد السلام (660هـ) والإمام ابن تيمية (728هـ) فيما يتعلق بترجيح خير الخيرين لتحصيله، وشر الشرين لدفعه عند التزاحم، وأن الواجب إنما هو “الأرضَى من الموجود، والغالب أنه لا يوجد كاملاً”،
وهو ما يُظهر السمة العملية للفقه الإسلامي أكثر مما يظهر السمة العملية لدى الإمامين؛ لأنها ظاهرة عامة تسم الفقه كله الذي هو عملي أصالة.ولكن غياب التنظير السياسي للمصالح عند الإسلاميين، وتحولات الدولة والسلطة، جعلت تطبيقات المصلحة في مسائل الشأن العام ومن استدعاء نصوص فقهية كلاسيكية في ظل الدولة مسألة محفوفة بالمخاطر؛ لأنها تثير أسئلة شائكة من قبيل: من يقدر المصالح في ظل الصراع على السلطة والدولة؟ وكيف نقدرها؟ وما معايير تقديرها في ظل ما تطرحه إمكانات العلوم الاجتماعية والسياسية، وفي ظل الانقسامات الحاصلة سياسيًّا وأيديولوجيًّا؟ وعن مصالح من نتحدث هنا: الحركة، الجماعة، الشعب، الأمة؟
لا شك أن المصلحة مسألة محل اعتبار في فلسفات عديدة، كالفلسفة النفعية (Utilitarianism) ومقاصد الشريعة القائمة أساسًا على أن أحكام الشريعة إنما هي لجلب مصلحة أو درء مفسدة (دنيوية ودينية) وفق قوانين منضبطة يشكل النصّ الديني فيها المصدر الرئيس لمعرفة مراد الشارع،
ولكن المصلحة تحولت مع الإسلاميين -في المجال السياسي- إلى مصلحة ارتجالية أو حزبية ضيقة؛ مع حصول تغيرات سياسية وتاريخية لم يواكبها تنظير فكري ملائم يضبط هذه الممارسة بضوابط كلية واضحة وشفافة تعصم من الارتجال والحزبية، ويتحقق فيها الاتساق والعموم والاطراد، كما أن النقاش في المصلحة العامة سيبقى إشكاليًّا وصراعيًّا بين مختلف الأطراف ما لم تقم لدينا دولة مؤسسات تُمأسس المصالح العامة، بحيث يسهم في تقديرها الخبراء في كل مجال مع وجود رأي عام ومؤسسات رقابة، بالإضافة إلى الفقهاء الذين يجتهدون في تقرير المبادئ الحاكمة في الشريعة ومراتب الموازنة بين الواقع والواجب.