العقيد عبد الجبار عكيدي
هدأت وتيرة القتال على جبهات أحياء حلب الغربية (صلاح الدين، سيف الدولة، الإذاعة) ورسمت خطوط الفصل ونقاط التماس بعد أن استُنزفت الفصائل في معارك ضارية استمرت لأكثر من خمسة وأربعين يوماً، تكبدت فيها قوات النظام خسائر كبيرة، وارتقى خيرة المقاتلين النوعيين منا، بينما كان قد انسحب معظم مقاتلي الفصائل الإسلاموية -كما ذكرت في مقالي السابق- من تلك الجبهات حيث توجه قادتهم للبحث عن الغنائم.
بدأت مرحلة جديدة، ومعها أخذت المعارك طابعاً مختلفاً بعد أن اكتسب الثوار خبرة أكثر وتمرسوا في قتال الشوارع، كما أدركوا أنه عليهم فتح معارك على الثكنات العسكرية الهامة لإضعاف النظام واغتنام الأسلحة والذخائر التي تمكنهم من تسليح المنضمين الجدد، الذين ازدادت أعدادهم في صفوف الجيش الحر.
في تلك المرحلة حصل فرز غريب عن فكر السوريين، فرضته أجندات وداعمون وتيارات وجماعات سعت لحرف الثورة عن أهدافها الوطنية ومسارها العفوي الساعي لإسقاط النظام لا إسقاط الدولة، وتغييره إلى نظام مدني ديمقراطي، وظهرت شعارات طائفية مذهبية تحمل فكر تنظيمات متشددة، كالقاعدة وحزب التحرير.
كانت البداية يوم الجمعة الموافق للسابع من شهر أيلول 2012، من أحد أحياء حلب القديمة، (حي أغير) حيث توجد ثكنة هنانو، التي تحوي شعب التجنيد وكتيبة حفظ النظام والأمن العام، وهي من أهم القطع العسكرية في وسط المدينة، حيث مكن هذا الموقع الاستراتيجي المرتفع قناصيها من رصد دوار باب الحديد والطرق الواصلة إلى أحياء حلب القديمة وإعاقة حركة وتنقل عناصر الجيش الحر إليها وإلى الأحياء الغربية، إضافة إلى احتواء هذه الثكنة على الكثير من الأسلحة والذخائر.
أيضاً كان أهمية تحرير الثكنة مهماً جداً لفتح طريق تحرير أحياء ميسلون والجابرية والعرقوب، حيث فرع الأمن السياسي وفرع النجدة وقسم شرطة ميسلون.
وبعد أيام من المراقبة والاستطلاع والحصول على معلومات هامة عن حجم قوات النظام وتمركزها من بعض العناصر المنشقين عنها، أعلن لواء التوحيد بمشاركة جبهة النصرة وأحرار الشام وحركة الفجر الإسلامية، عن بدء العملية العسكرية، وبدأ اقتحام الثكنة المحصنة بأسوار عالية تعود للعهد العثماني، واضطر الثوار إلى استخدام السلالم في اقتحامها، ودارت معارك ضارية قُتل فيها العشرات من عناصر النظام، وتم تحرير مساحات واسعة من الثكنة واغتنام الكثير من السلاح الخفيف والمتوسط، وكميات كبيرة من الذخائر المتنوعة.ورغم التخطيط الجيد للمعركة التي قادها القائد العسكري في لواء التوحيد الرائد محمد حمادين، فإنها لم تُستكمل، نتيجة استماتة قوات النظام بالدفاع عنها باستخدام الطائرات الحربية وسلاح المدفعية بكثافة، وبعد معارك كر وفر دامت ثلاثة أيام استطاعت قوات النظام استعادة السيطرة على الثكنة. بعد الاستعادة، ولإبعاد الخطر عن تلك المنطقة الهامة بالنسبة للنظام، شنت قواته هجوماً واسعاً على أحياء العرقوب والصاخور وكرم الجبل، بعد أن استجلبت أعداداً كبيرة من الشبيحة، ومن قواته المعززة بجميع صنوف الأسلحة، وبدأ ضغط النظام كبيراً على دوار الصاخور، لفتح الطريق الواصل إلى المطار، وهجوم شرس مدمر على حي كرم الجبل وأحياء حلب القديمة، وجبهة المطار، لتدور معارك شرسة جداً شاركت فيها أغلب الفصائل الحلبية، بالإضافة إلى لواء أحرار حلفايا.
في تلك الأثناء كانت المنافسة الشريفة على أشدها بين الفصائل والتسابق لمؤازرة بعضهم بعضاً لدحر النظام وتحرير مناطق جديدةفي هذه المعارك الضارية استشهد دفعة جديدة من خيرة مقاتلي الجيش الحر، كان أبرزهم الرائد أمين البواب، المعروف بـ (أبو محمد الحمصي) ابن قلعة الحصن، الذي التحق بعد انشقاقه بلواء التوحيد، ولبى النداء لمؤازرة إخوانه في جبهة كرم الجبل التي كادت أن تسقط لولا بسالته وحنكته العسكرية.
والقائد العسكري للواء الفتح، ابن مدينة مورك، الملازم أول المغوار أبو الحارث، الذي لم يمضِ أسبوع على تسلمه القيادة العسكرية بعد استشهاد سلفه الملازم أول رفعت خليل أبو النصر الذي استشهد في أثناء اقتحام كتيبة الصواريخ في حندارات، بالإضافة إلى الكثير من الأبطال الذين استشهدوا ولم يسمع بهم أحد ولم يذكرهم الإعلام في زحمة المعارك وارتقاء الشهداء.
في تلك الأثناء كانت المنافسة الشريفة على أشدها بين الفصائل والتسابق لمؤازرة بعضهم بعضاً لدحر النظام وتحرير مناطق جديدة. وتزامناً مع اقتحام النظام لتلك الأحياء، ولتشتيت الجهد الرئيسي لقوات النظام، قامت عدة فصائل بفتح معارك على جبهات لم يتوقعها العدو، كان أبرزها المعركة التي شنها لواء الفتح الذي كان قد تشكل حديثاً كمنافس قوي للواء التوحيد، في خوض غمار معارك الشرف والتحرير، وبمشاركة عدة فصائل أبرزها لواء التوحيد، وأحرار الشام، وكتيبة السلطان محمد الفاتح، التي كان يقودها الأسد الهصور أبو عبد الله التركماني، الذي استشهد وهو يتقدم صفوف مقاتليه، لتطهير حي سليمان الحلبي المليء بالشبيحة، وامتدت إلى أحياء الميدان، بستان الباشا، والهلك.
وبتاريخ 13 أيلول 2012 تم تحرير قسم شرطة الميدان وقسم شرطة الشيخ مقصود، ودارت معارك طاحنة لتحرير فرع المداهمة في الميدان التابع للمخابرات العسكرية، لم يكتب لها النجاح.في الطرف الآخر من المدينة وفي أحيائها الغربية حيث هدأت جبهات القتال قليلاً، تداعى الثوار لتنظيم صفوفهم وتوحيدها، فكان تشكيل لواء حلب الشهباء بتاريخ الرابع من أيلول 2012 الذي ضم الكثير من المجموعات التي كان لها السبق في معارك تحرير الأحياء الغربية، وبدأ باكورة أعماله بالتعاون مع الفصائل الأخرى بعدة عمليات على المخابرات الجوية ودوار الليرمون، كان أهمها قبيل عيد الأضحى بيومين وبتاريخ 26 تشرين الأول 2012 حيث قامت مجموعة من مقاتلي اللواء بقيادة أبو الصادق وأبو جمعة عكيدي، وبمشاركة مجموعة من أبطال مدينة منبج من كتيبة الكرامة التابعة للواء التوحيد بقيادة الشهيد أبو هادي، الذي قتلته جبهة النصرة غدراً فيما بعد، بالتخطيط للهجوم على كتيبة المهلب وكتيبة طارق بن زياد في حي السبيل.
شارك فيها ثلة من القادة والمقاتلين المشهود لهم ممن خاضوا معارك أحياء حلب الغربية، كان أبرزهم (أبو أدهم خليفة، الشهيد أبو محمود ذو النورين، أسد الجنوب الشهيد أبو هلال زيتان، الشهيد أبو خالد عزيزة، الشهيد أحمد الدبيح، وكثيرون)عند وصول الثوار إلى حي بني زيد حيث ترابط مجموعة صغيرة من كتيبة شهداء بدر بقيادة خالد حياني التابعة للواء أحرار سوريا الذي كان يقوده أحمد عفش، تزامن وصولهم قدراً مع هجوم لقوات النظام لاستعادة الحي والسكن الشبابي، بتسهيل من عناصر pyd الموجودين في أحياء الأشرفية والشيخ مقصود المجاورين، فكانت معركة مفاجئة وغير مخطط لها، استطاع الثوار إفشال هجوم النظام وكبدوه خسائر كبيرة وأسروا عدداً من عناصره.
تلك المرحلة لم يكن قد حصلت أي مواجهة مع عناصر pyd التي انسحب النظام من مناطق وجودها كما فعل في عفرين وعين العرب، تاركاً لهم المقار والسلاح والآليات، حيث كانت تلك الأحياء ذات الغالبية الكردية، قبل سيطرة أحزاب قنديل عليها، ملاذاً آمناً للثوار وإسعاف الجرحى والمصابين، في حالة وطنية بعيدة عن أي تمييز عرقي أو قومي، وفي تفاعل وتعاون كبيرين من قبل الأخوة الأكراد الوطنيين مع الثوار.
لكن ذاك اليوم كان بداية منعطف جديد في العلاقة مع تلك التنظيمات، حيث حاول قائد العملية أبو الصادق التعامل معهم بحكمة وعدم الصدام وإفهامهم أن العدو واحد، وأن دخولنا مناطق نفوذهم عبارة عن مرور طريق فقط دون التعرض لهم، على أن يلزموا الحياد.كان واضحاً أن النظام أصبح أكثر إصرارا على عدم التخلي عن أي منطقة أو حي، فقد بات لديه قوات كبيرة في حلبمضى مقاتلو الجيش الحر في خطتهم محررين أجزاء من حي السبيل والسريان وسط اشتباكات عنيفة سقط فيها الكثير من عناصر النظام وشبيحته، وارتقى عدد من عناصر الفصائل شهداء، وفي خضم المعركة وزهوة المقاتلين بالنصر، مع وصولهم إلى جامع الرحمن، حصل ما لم يكن بالحسبان، حيث نكث قادة التنظيم، الذين لم يكن لدى الثوار معرفة بطبيعة غدرهم وخلفيتهم الأيديولوجية وارتباطهم بالنظام، بالاتفاق، وحاولوا محاصرة الثوار من الخلف، فحصل اشتباك بينهم وبين مجموعات خالد حياني، أصيبت على أثرها القائد العسكري للتنظيم (لجين)، وتم أسرها، واضطر المقاتلون بعد ذلك إلى التراجع والانسحاب، خشية محاصرتهم ووقوعهم بالأسر. كان واضحاً أن النظام أصبح أكثر إصرارا على عدم التخلي عن أي منطقة أو حي، فقد بات لديه قوات كبيرة في حلب والآلاف من الشبيحة والميليشيات الطائفية التي زجتها إيران في المعارك إلى جانب قواته، ولذا لم تتمكن الفصائل التي دخلت أحياء سليمان الحلبي والميدان والعرقوب من الثبات والصمود أمام آلته العسكرية المدمرة، واضطرت إلى الانسحاب مكتفية بالحفاظ على خطوط التماس في أحياء الصاخور وكرم الجبل.
لم تفتر عزيمة الثوار ولم تلن لهم قناة، وبدأ التخطيط لفتح معارك جديدة كان أبرزها تحرير حي الشيخ سعيد، ومعمل الأسمنت، وحواجز النظام على طريق المطار، والفوج 46، ومدرسة المشاة، واللواء 135، ومعارك كثيرة أخرى، ستكون في سلسلة مقالات لاحقة.