عبير نصر
العربي الجديد:15/6/2021
لم يتوانَ النظامُ السوري الذي يدّعي العلمانية عن توظيفِ مفهومِ الخصوصيةِ الدينية والقومية لمصلحة طموحاته الشمولية. وتعزّزت شخصنةُ الدولة بعد اللجوء إلى حلولٍ أمنيةٍ للحفاظِ على مكتسباتِ “الثورة التصحيحية”، ما عرّضه للوقوعِ في معضلاتٍ تاريخية عدّة، لعلّ أبرزها انفجارُ العامل المذهبي في انتفاضة الإخوان المسلمين عام 1977، لتطلَّ الطائفيةُ البغيضة متسلّلة من انتعاشها في لبنان الذي كان يدخل عامه الثاني في الحرب.
بالإضافة إلى قضيةِ الشعب الكردي واللعبِ على وترِ حساسيةِ كيانه المهمّش. بناء عليه، تشكلتْ حالةُ استعصاءٍ وطنية، كانت لا بدّ ستجرّ البلادَ إلى مصيرٍ مجهولٍ اتضحتْ ملامحه الكارثية بعد 2011، عندما انقلب السحرُ على الساحر على نحوٍ متوقع بطبيعةِ الحال.
وتفيدنا إطلالةٌ سريعةٌ على الدولِ الغربية التي تعتمد في دساتيرها مبدأ العلمانية بأنها دول حافظتْ على حيادها تجاه الأديان، من دون العداء لها أو محاربتها. أما في سورية فقد أثبتتِ الأحداثُ أنّ النظامَ الذي بقي أسيرَ العقليات المتخلّفة والعصبيات الضيقة لم يتوانَ عن ضربِ المؤسسات الدينية وقمعِ رجالها، عندما كانت تشكّل تهديداً له، واستفزازه لها في أحيانٍ كثيرة، فكان فتيانُ “البعث” وفتياته يسيّرون دورياتٍ في دمشق ومدن أخرى في لباسٍ عسكري، ويتعرّضون للنساء اللاتي يرتدين الحجاب.
والنظام، من حيث لا يدري، قدّم وقوداً لأعدائه، السلفيين خصوصا، في 25 إبريل/ نيسان 1967 عندما نشرتْ مجلةُ “جيش الشعب”، الرسمية الصادرة عن الجيش السوري، مقالاً بعنوان “وسائلُ خلق الإنسان العربي الجديد”، دعا فيه إلى التخلصِ من التقاليد البالية التي تعوق التقدم، ومنها قيم الله والدين، والإقطاعية، والرأسمالية، والاستعمار وكنسها إلى متحفِ التاريخ.وعندما تولّى الأسدُ الأب السلطةَ، سعى جاهداً إلى إضعافِ جماعة الإخوان المسلمين، فصدر قرارٌ بحظرها في 1974، بعدما اعتبرت الجماعة حكمَ البعث الأقلوي إهانة للذات الإلهية، وإنّ القضاءَ عليه تكليفٌ شرعي للمسلمين. وفي 1979، انشقتْ مجموعةُ “الطليعة المقاتلة” عن الجماعة، لتخوضَ عملاً مسلحاً ضدّ النظام، فقتلت 83 ضابطاً سوريا من الطائفة العلوية في مدرسةِ المدفعية العسكرية في حلب. إثر هذه الأحداث، صدر القانون رقم 49 لعام 1980 الذي حظر جماعة الإخوان، وعاقب كلّ من يثبُت انتماؤه لها بالإعدام.
واستمر العنفُ بين الجانبين، حتى شنّ النظامُ حملةً لسحقِ “الطليعة المقاتلة” بعمليةٍ عسكرية كبرى، استهدفت مدينة حماة في فبراير/ شباط 1982، قُتل فيها ما بين عشرة آلاف و25 ألفاً من سكانها. بعدها غابتِ الجماعةُ عن الحياةِ السياسية، ونُفي قادتها وكثيرون من أعضائها الناجين إلى المهجر.
وحتى أواخر السبعينات، لم تكنْ حركةُ الإخوان تبلغ من القوّة حدّاً تهدّد النظام السوري، بينما كان حزبُ البعث يحقق صعوداً غير مسبوق، وخصوصا في أوساط السنّة منذ الخمسينات، ما أغضب “الإخوان” وصعّد عداءهم، فلم يخلُ أسبوعٌ من دون التلاسن أو التشابك بالأيدي بين شباب “البعث” والجماعة.
وتدريجياً، انتقل التنظيمُ من ثقافةٍ سياسيةٍ قائمةٍ على جمودِ التسلسل الهرمي، وسريّةِ العمل تحت الأرض، والتشاحن الداخلي إلى إطارٍ أكثر انفتاحاً، يوفّر فرصاً للسياسيين الشباب المحافظين ليكونوا قادةً يمكنهم استقطاب الجيل الجديد وإشراكه.
وبعد اندلاع الثورة السورية قامتِ الجماعةُ بمحاولاتٍ متكرّرة لربط روايتها عن محاولتها إطاحة النظام في العام 1980 بالأزمة السورية الراهنة.
ونجاحها في مثل هذا الربط يمنح عمقاً تاريخياً لبعض المتمرّدين الحاليين الذين ربما يكون آباؤهم أو أقاربهم قد قضوا في سجون النظام قبل ثلاثين سنة، فانضمّوا إلى التنظيم، للانتقامِ مما حصل في حماة وأماكن أخرى.
في وقتٍ أعلن فيه المراقب العام للجماعة مشاركة “الإخوان” بالثورة بفاعليةٍ، مشدّداً على استمرارِ الاحتجاجات حتى إسقاط النظام.في سياقٍ موازٍ، وفي ظلّ حكمٍ يبشّر بالاشتراكيةِ والقومية العربية، كان متوقعاً أن تطفو المسألةُ الكردية على السطح، فـ”البعث” الذي سهّل صعودَ الأقليات الدينية لم يكن يثق بالأكراد ونياتهم، بعد شيوع أنّ بعضَ قياداتهم كانت تتلقى العونَ من إسرائيل منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي.
ففي 1963، انطلقت نداءاتٌ لإنقاذِ منطقة الجزيرة من “المؤامرةِ الكردية” لإقامةِ إسرائيل ثانية في شمال سورية، وشارك الجيشُ السوري في معارك ضدهم في الموصل، وكانت سورية الدولةَ العربية الوحيدة التي عارضتْ إعلانَ وقف إطلاق النار بين الجيش العراقي والمليشيات الكردية في 1964 و1966.
كما أعدّت السلطاتُ السورية عام 1962 إحصاءً سكانياً في محافظة الحسكة، لمكافحة “الخطر الكردي” المزعوم، نجم عنه تجريد 120 ألف كردي من جنسيتهم، بحجّة أنهم ليسوا سوريين “أصليين”، إنما دخلوا البلادَ بطريقةٍ غير شرعية من تركيا والعراق.وفي 1973، سعى نظامُ “البعث” إلى إرساء حزامٍ عربي على طول الحدود التركية. ونتيجة ذلك، خسر آلافُ الأكراد منازلهم وأملاكهم، وحرموا من الاستفادةِ من الإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي. في هذا الوقت، طالبت الأحزابُ الكردية بالسماح بتداولِ اللغة الكردية، وإعادةِ الجنسيةِ لمئات آلاف من الأكراد السوريين المجرّدين منها، لكن نظام الأسدين لم يلبّ أيّاً من هذه المطالب، بل زجّ آلافا منهم بالسجون واتهمهم بالانفصالية.
ولم يُسمح لهم بالاحتفال بعيدهم القومي “النوروز” بعدما أُصدر المرسوم رقم 104 لعام 1988، والذي يقضي باعتبار 21 مارس/ آذار من كلّ عام عيداً رسمياً للأم في البلاد، تعطل فيه الدوائر الحكومية، نتيجة غياب الأكراد عن دوائر الدولة والجامعات والمدارس.
والجدير ذكره أنّ أولَ مرّة في تاريخ الكيان السوري يقع فيها عنفٌ وضحايا من الكرد في انتفاضةٍ جماعية، كانت عام 2004 حيث تفجرتْ احتجاجاتٌ في القامشلي، انتشرت بسرعةٍ إلى كلّ مناطق وجودهم في سورية، وسقط خلالها نحو ثلاثين شخصاً. ونتيجة لذلك، كان من الطبيعي أن يشاركَ الكردُ في الثورة السورية منذ البداية. وشكلتْ بلدةُ عامودا في الحسكة أقربَ شيءٍ إلى معادلٍ كردي لبلدة كفرنبل المحتلة، من حيث خفّة الدم والتعليقات الساخرة والمأساوية في آن معاً.
وكانت الثورةُ مناسبةً لإعادةِ التفكير في العلاقةِ بين الوطنية السورية والنزعة القومية الكردستانية.واليوم، لا يخفى على أحد أنّ هناك ميلا متعاظما عند الحركةِ السياسية الكردية لاستثمارِ معطيات الثورة إلى الحدّ الأقصى، لتحقيقِ مطالب كردية خاصة على حسابِ الوطنية السورية.
ولافتٌ أنّ تلك المطالب التي طالما اقتصرت عموماً على الحقوقِ الثقافية، والاعترافِ الدستوري بوجودِ الشعب الكردي، إضافة إلى رفعِ المظالم، وأبرزها استعادة الجنسية، ارتفع سقفها، مع تصاعد الثورة، إلى ما يقترب من الفيدرالية، من غير أن تُسمّى كذلك. ومع انسحابِ الجيش السوري من بلداتٍ عدّة شمال البلاد وشمال شرقها في يوليو/ تموز 2012، وجد الأكرادُ أنفسهم متمكّنين بعد معاناتهم من الدكتاتوريةِ والتهميشِ خمسين عاماً.
وخلال حكم الأسدين، قُدِّر للسوريين أن يكونوا مطيّةَ حكمٍ شمولي مستبدّ، حزم الوطنَ وحشره في قمقمٍ أسود معتم، ليغصَّ بأبناء حولهم القمع والقهر إلى ألدّ الأعداء. وبينما راح العالمُ يتطور نحو الرقي والرفاهية، كان النظامُ السوري يربّي أعداءه كلّ شبر بندر، عبر أدواتِ الاستبداد والمواقف الإقصائية، احتكر خلالها مساحةَ الشأنِ العام والعمل السياسي، مُسيَّجاً بجيشٍ عقائدي تبنّى أيديولوجية “القائد المعبود” التي حلّت تدريجياً مكانَ ولائه للوطن وحقوق المواطنة.