عبد الله التركماني
عشر سنوات ونيّف من المقتلة الدموية زعزعت المجتمع السوري، ومزّقت نسيجه الوطني، وعمّقت المخاوف وعدم الثقة المتبادلة بين جميع المكوّنات الاجتماعية، بما في ذلك داخل الطائفة والجماعة الواحدة، وليس بينها فحسب. وفي هذا السياق، ثمة مخاطر عديدة تهدد وحدة سورية، إذ يمكن أن تتفكك بفعل انهيار الدولة المركزية وتشكّل دويلات وإمارات ومناطق منعزلة.ومما يمكن أن يشجع على هذا التفكك أن قوى الأمر الواقع، الإقليمية والدولية، تحاول أن ترسّخ نفوذها ” من تحت “، عملاً بوصفة ” مؤسسة راند ” الأميركية، الداعية إلى ” ضرورة إقامة مناطق آمنة مقترنة بضمانات خارجية لتثبيت آلية وقف إطلاق النار “، و” اللامركزية أصلح نموذج للحكم في سورية المستقبلية “، و” أنّ التطورات الأخيرة في سورية والمنطقة بما في ذلك اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي رعته روسيا وإيران وتركيا سيفتح الآفاق لوقف إطلاق النار على أساس وطني متفق عليه، وهو ما سيفرز مناطق سيطرة تدعمها قوى خارجية “.
مما يفرض على قوى التغيير الوطني الديمقراطي أن تقدم خطة اعتراضية ” من تحت “، تساهم في نقل السوريين إلى الحالة الوطنية الجامعة. ولعلَّ مشروع اللامركزية الإدارية الجغرافية سيكون مساهماً في وقف النزيف السوري، وبناء مستقبل سورية الغد في إطار التعددية والديمقراطية، كما سيساهم في ازدهار البلاد اقتصادياً، وتماسكها كوحدة جغرافية تقطع السبيل أمام التقسيم والتفكك.إنّ الخيار ليس بين المركزية الطاغية، أو التقسيم، أو الفيدراليات الطائفية والقومية، بل هو بين هذا كله وبين نظام ديمقراطي حقيقي، تُضمن فيه صلاحيات الحكومة المركزية، في المجالات الكبرى، حكومة قادرة على حل القضايا المعلقة والشائكة. إنه أيضاً النظام الذي يضمن، في الوقت نفسه، أوسع الصلاحيات للمحافظات والمناطق والنواحي.
لهذا تبدو الحاجة ملحّة الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى تنظيم وإطلاق حوار وطني واسع، يقوم به سوريون أحرار، يمتد ليشمل البلد بأكمله، ويفضي إلى عقد اجتماعي جديد. وإنه لأمر بديهي أنّ استعادة الدولة أولا،ً وإرساء الدولة الوطنية الحديثة، والمجتمع الديمقراطي التعددي ثانياً، يشكلان حجر الزاوية في العقد الاجتماعي المأمول.
وفي الواقع، تتطلب العقلانية التعامل مع الجدل السوري الجاري بشأن حدود النظام اللامركزي من زاويتين مهمتين: أولاهما، على أنه يقدم الحل لمشكلة مزمنة هي مشكلة المكوّنات القومية والدينية ضمن الدولة السورية الواحدة. وثانيتهما، أنه يقدم الحل لإشكالية الحكم في دولة يصعب قيادتها مركزياً.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: إذا كان نظام اللامركزية الإدارية الجغرافية يقدم الحل لهاتين المشكلتين المزمنتين فألا يستحق من الجميع التوقف عنده وإعطاء الفرصة له بعيداً عن الشعارات الجاهزة والتي تساويه بالتقسيم والخيانة؟إن العمل المحلي يحتاج إلى قدر كبير من المشاركة، سواء في انتخاب أعضاء المجالس المحلية أو المساهمة في المشاريع التنموية، التي يتم إنشاؤها داخل الوحدة المحلية، أو الرقابة على الأعضاء ومحاسبتهم على أدائهم ومطالبتهم بتقديم كشف حساب إلى هيئة يكوّنها الناخبون، تناقشهم في الأعمال المزمع القيام بها وتراجعهم في أوجه القصور، وتساعدهم على تلافيها، وقيمة المشاركة تتطلب وجود قدر مرتفع من قيمة الحرية.
والحرية والمشاركة يضمنان قدراً من العدالة في توزيع الموارد والأعباء المحلية، ويحفظان للمواطنين حقهم في المساواة أمام المجالس والنظم المحلية.وإذا كان النظام المحلي له هذا الدور الهام في تحقيق الوحدة الوطنية الطوعية، فإنّ القيم السياسية الحديثة هي بيت القصيد في هذه العملية، فالمشاركة السياسية مثلاً تقوّي الوحدة الوطنية السورية، والمشاركة عن طريق اللامركزية تسمح للولاءات الفرعية بأن تعبّر عن نفسها دون كبت، ما يؤدي إلى التخفيف من وطأتها فلا تصبح معضلة في سبيل تحقيق الوحدة الوطنية.
وهكذا، بإعادة رسم الخريطة الإدارية السورية نستطيع أن نتحاشى اشتراط البعض لنصوص دستورية أو قانونية تشكل ألغاماً يمكنها أن تنفجر بأي لحظة، وأن نتجنب تحكّم ظلال الماضي المعتم بمستقبل سورية.
فعندما تضمن المكوّنات تمثيلها في مناطقها، فإنها ستقوم من خلال الممارسة الديمقراطية بانتخاب ممثلين لها وفقاً لأسس المصلحة العامة والكفاءة والفاعلية والمردودية، وهذا هو مفهوم النظام الديمقراطي الذي تقوم عليه الدول.وهكذا، يتحدد فهمنا للامركزية الإدارية الجغرافية على الأسس التالية:
1- قيامها على وحدة سورية وطناً لكل السوريين، من خلال تنظيم الإدارة المحلية، وتنظيم تقاسم الموارد، لمنع تسلّط المركز، واستحواذه على معظم موارد البلد، وضمان توسيع المشاركة في الحكم وصياغة القرارات المصيرية.
2 – لا تعني قيام كل محافظة بإقامة علاقات خارجية أو تشكيل جيش أو عملة أو علم خاصين بها، وإنما تعني إدارة شؤونها في قضايا التعليم والصحة والخدمات والأمن الداخلي، أما الشؤون السيادية، وضمنها الخارجية والدفاع وإدارة الاقتصاد، فتبقى في يد السلطة المركزية.
3 – تقوم على أساس جغرافي، وليس على أساس قومي أو طائفي، لأنّ ذلك يتناقض مع دولة المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات.
4 – لا يتم تعريف المواطن بقوميته أو دينه أو مذهبه أو جنسه، فالمكانة الحقوقية متساوية لكل المواطنين.
فإذا كان للامركزية الإدارية أن تكون صيغة مناسبة لاتحاد سوري، يطوي صفحة التصورات القومية والمركزية لسورية، يقتضي الأمر أن نكون جادين في شأنها، وأن تقوم على تفاهم سياسي عريض، وتُراعى مقتضيات قيامها من استشارة السكان وتوفير تمثيل فعّال لهم، ومن توفير بيئة أكثر ملاءمة للاتحاد في البلد ككل، وفي المحافظات والمناطق والنواحي والبلدات.
وهكذا، يخطئ من يعتقد بأنّ رفض النظام المركزي التسلّطي والعودة للتهديد يمكنها حماية وحدة البلاد، فالطريق المجربة للحفاظ على اللحمة الوطنية هي حين تنظم حياة السوريين قوانين لا تميّز بينهم ويتلمسون بأنهم بشر متساوون في الحقوق والواجبات، طريق لا يمكن أن تنهض إلا بنقد الماضي المكتظ بكل أنواع الظلم والاضطهاد، والاعتراف بأنّ النظام المركزي بنسخته الشمولية ذهب إلى غير رجعة.