• الأحد , 24 نوفمبر 2024

في تونس فقيه الدستور وحاميه يعتدي عليه

عبد الحميد عكيل العواك

تتعرض الدولة لخطر مفاجئ وجسيم يهدد كيانها أو سير مؤسساتها الدستورية، فتضطر الدولة إلى الخروج عن الشرعية العادية إلى شرعية استثنائية لمواجهة ظرف استثنائي.

اختلف الساسة في تونس، وتصادمت الأيديولوجيات، والخلاف طبيعة بشرية، وظاهرة مجتمعية، تحصل في كل مكان وزمان، وتختلف المجتمعات بآلية الخروج من الأزمات، فالشعوب الديمقراطية تلجأ إلى الوسائل السلمية التي نص عليها الدستور، والشعوب الأخرى التي تأخذ الدستور واجهة سرعان ما تنقلب عليه عند أول أزمة.

تعمد الرئيس التونسي إحداث مفاجأة بإعلان السلطات الاستثنائية التي نص عليها الفصل (80) من الدستور التونسي الحالي، فأحدث زوبعة سياسية داخل مؤسسات الدولة، وجدلاً دستورياً سياسياً، بين من يراه قد انقلب على الدستور ومن يأمل أنه استدعى الدستور لحل الأزمة.

الجذر التاريخي للفصل (80)

ولدت السلطات الاستثنائية المنصوص عنها بالفصل 80 أول مرة في دستور فرنسا لعام 1958 باقتراح من الجنرال ديغول، ليسدَّ نقص المنظومة الدستورية السابقة التي وقفت عاجزة عن حماية الدولة من الغزو النازي.

إذا كانت ولادة هذه المادة في فرنسا جاءت نتيجة تطور البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وما مرت به هذه البنى من ظروف، وما تعرضت له من أزمات اضطرت الحاجة إلى ابتكار هذه المادة، فإن انتقال نص هذه المادة إلى الدساتير العربية كان نتيجة المحاكاة والتقليد للدساتير الغربية، وأخذ ما ينتجه الغرب سواء كنا بحاجة له أم لم نكن، وقد أخذها في البداية دستور الحبيب بورقيبة بالفصل 46 وأبقاها دستور 2014 بلا مبرر لبقائها.

تطبيق عملي للسلطات الاستثنائية

طبقت هذه المادة أربع مرات في ثلاثة بلدان، كانت المرة الأولى في فرنسا عندما استخدم الجنرال ديغول سلطاته الاستثنائية في 29 أيلول لعام 1961 للتصدي للحركة الانقلابية التي قام بها بعض قادة الجيش الفرنسي في الجزائر.

على حين شهدت مصر تطبيقها مرتين في ظل دستور عام 1971 في عهد السادات كان ذلك في 3 فبراير 1977 عقب أحداث يومي 18و 19 يناير من تلك السنة، حيث وقعت أحداث شغب واضطرابات قامت الحكومة بمواجهتها بإجراءات صارمة.وعندما وقعت أحداث طائفية في بعض المدن المصرية في بداية صيف 1981، أعلن الرئيس في 5 سبتمبر سنة 1981 التجاءه إلى استعمال ما تخوله المادة (74) من الدستور لحماية الوحدة الوطنية من الفتنة الطائفية.

وأما المرة الرابعة فوقعت أمسِ عند إعلان تطبيقها في تونس.ويجمع الفقه الدستوري على أن تطبيقاتها لم تكن متوافقة مع شروطها وغايتها، وكانت تشكل حالة اعتداء على الدستور.

الشروط اللازمة لتطبيق الفصل 80 من الدستور التونسي

إن غموض نصوص هذا الفصل قد يفسح مجالاً واسعاً للجدل في تفسيره أو محاولة تحديد مضمونه. لذلك فقد اتجه الفقه إلى ضرورة الالتزام بشروط استخدامه، وقسموه إلى شروط موضوعية، وشروط شكلية.

1-الشروط الموضوعية

نص الفصل (80) على أنه “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة” من هذا النص نستخلص الشروط الموضوعية:أ- وجود خطر داهمإنّ كلمة ((داهم)) التي وصف بها الخطر تنصرف إلى معنيين فهو مفاجئ وواقع، أو سيقع عما قريب، وليس خطراً زال أو انتهى.

وبالتالي لا ينطبق النص في حالة الخطر البسيط أو الوهمي أو التصوري أو الذي لم يبدأ أو الذي بدأ وانتهى، وكذلك في حالة الخطر المحتمل الوقوع بعد فترة، أو الخطر المستقبلي، لأنه يمكن الإعداد لمواجهته. وبالتالي فإن الخطر الذي يبرر استخدام الفصل (80) لا بد أن يكون من قبيل المخاطر الاستثنائية التي تتجاوز المخاطر العادية وتجري في كل مجتمع، بحيث يتعذر مواجهتها باتباع الوسائل القانونية العادية، أو الوسائل الاستثنائية المقررة بالدستور.

ويلاحظ غياب الخطر بهذه المواصفات في الحالة التونسية، إذ إنه من قبيل الخلافات السياسية العادية ويمكن حله باللجوء إلى إجراءات الفصل 98 القاضي بحل البرلمان والدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة.

ب- أن يقع الخطر مهدداً لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها

الخطر المهدد لكيان الوطن هو خطر مهدد لبقائها، سواء كان هذا الاعتداء ينصبّ على إقليمها الجغرافي بالتوسع العدواني على حساب أراضيها، أو خطر يتهدد مواطنيها من خلال زعزعة الوحدة الوطنية، أو الأضرار الاقتصادية الكبيرة التي تنتج عنها الأزمات الاقتصادية.

وهو ما لم يتوفر في حالة الإعلان الأخير، فلم يوجد خطر داخلي استثنائي وفجائي يهدد الدولة، وليس هناك عدوان خارجي يهدد استقلالها.

ت- أن يؤدي الخطر إلى تعذر السير العادي لدواليب الدولةلقد اشترط الفصل (80) كأثر يجب توافره إلى جوار الخطر الجسيم والحال، بمعنى أنّه يجب أن يكون هذا الخطر مؤدياً بالضرورة إلى تعذر السير المنتظم للسلطات الدستورية العامة، فالشرطان يجب اجتماعهما معاً للجوء إلى الفصل (80).

وهذا لم يحدث في تونس على عكس من ذلك تعمد الرئيس التونسي تعطيل سير مؤسسات الدولة، فجمد عمل البرلمان وحل الحكومة.

2- الشروط الشكلية

أوجب الفصل (80) على رئيس الجمهورية اتخاذ بعض الإجراءات الشكلية قبل أن يستخدم هذه السلطات، وهذه الشروط عبارة عن ضوابط إجرائية، تلزم رئيس الجمهورية بإجرائها حتى تكون الرؤية واضحة أمامه قبل استخدام هذه السلطة الاستثنائية الخطيرة.أخذ استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية.

هذه الاستشارات لبعض المؤسسات الدستورية هي استشارات اختيارية غير ملزمة من حيث الأخذ بنتائجها، ولكنها ملزمة من حيث مبدأ إجرائها وطلبها، حيث تتوقف عليها المشروعية الشكلية لقرار الإعلان وقد أعلن الرئيس التونسي قيامه بهذه الإجراءات وهو ما نفاه رئيس مجلس نواب الشعب، وواقع الحال يؤكد صدق الثاني لأنه أعلن اعتراضه فور علمه بالإجراءات

.ب- توجيه بيان للشعب ويعني هذا الإجراء أن يوضح الرئيس للشعب الظرف الاستثنائي الطارئ، وما يترتب عليه من خطر، وما اتخذه الرئيس من إجراء لمواجهته وهو بذلك يحيط الشعب علما بالإجراءات الاستثنائية، وانتقال البلاد من المشروعية العادية الواسعة إلى المشروعية الاستثنائية الضيقة.

3- محظورات على رئيس الجمهورية بموجب الفصل (80)أ- اجتماع البرلمان وجوباًلقد طلب الدستور من مجلس نواب الشعب أن يكون في حالة انعقاد دائم طيلة إعلان الظروف الاستثنائية، ومنع على رئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب.

إن المشرع الدستوري قصد من الإبقاء على انعقاد البرلمان من أجل مباشرة مهامه الرقابية، إضافة إلى ما يحيله إليه رئيس الجمهورية من مهام تشريعية، وبذلك يساعد المشرع العادي (البرلمان) المشرع الاستثنائي (رئيس الدولة) بالقيام بواجباته في مثل هذه الظروف الصعبة.

نرى بأن بقاء البرلمان في حالة الانعقاد هو ضرورة تفرضها الظروف الاستثنائية حتى لا يتحول الرئيس إلى دكتاتور دائم، بعدما حولته الظروف الاستثنائية إلى دكتاتور مؤقت، ولكن كان يجب توضيح دور البرلمان، وفض التداخل الذي سيحصل مع دور الرئيس الاستثنائي.

لقد عمد الرئيس التونسي إلى مخالفة صريحة لروح المادة فقد عطل أعمال المجلس الذي يجب انعقاده بشكل دائم، لقد عمل بتوجه معاكس للمشرع الدستوري وهو ما يرقى إلى مستوى الخطأ الجسيم في مخالفة الدستور.ب- عدم جواز تقديم لائحة لوم ضد الحكومةولرغبة المشرع الدستوري ألا تغيب الحكومة عن المشهد بهذا الظرف فقد عطل حق الرئيس بتقديم لائحة لوم ضدها.

ونرى بأنه لا يحق للحكومة أن تقدم استقالتها وفق الفصل (98)، كما لا يحق لرئيس الحكومة أن يطرح على مجلس نواب الشعب التصويت على “الثقة” في مواصلة الحكومة نشاطها، كل ذلك لأنه وجود الحكومة وما تملك من سلطات تنفيذية تكون البلاد أحوج إليها في الظرف الاستثنائي ومواجهة الخطر.لقد تعمد الرئيس التونسي إلى حل الحكومة مخالفاً بذلك الفصل (80) الذي يمنع عليه تقديم لائحة لوم لأن البلاد بحاجة لجهد الحكومة.

لقد كان اعتداء رئيس الجمهورية واضح على الدستور ومخالفته الجسيمة لأحكام الدستور بينة، لذلك يجب على الشعب التونسي حماية دستوره من الاعتداء لأن الشعوب التي لا تحمي دساتيرها لا تنتظر من تلك الدساتير أن تحميها إذا ما اعتدى حكامها على شعوبها.

لقد كان ما فعله نكسة لمسيرة الديمقراطية التونسية، والديمقراطية تنتظر من الشعب أن يحرسها، من دون الالتفات إلى زاوية الخلافات السياسية الضيقة، لأن انحراف مسيرة الديمقراطية يعني الجميع في خطر، وواهم من يعتقد أنه ناج من هذا الخطر.

مقالات ذات صلة

USA