• الإثنين , 25 نوفمبر 2024

معركة روسيا على البحر الأسود تحركات موسكو قد تحدد مستقبل الملاحة فيه

أنجيلا ستينت

اندبندنت عربية:21/8/2021

في 25 يوليو (تموز) 2021، ألقى الرئيس فلاديمير بوتين خطاباً حماسياً في مدينة “سان بطرسبورغ” بمناسبة الذكرى 325 لتأسيس البحرية الروسية.

وأمام تمثال مؤسس الأسطول (والقيصر المفضل لدى بوتين)، بطرس الأكبر، أوضح أن “لدى البحرية الروسية كل ما تحتاج إليه حاضراً كي تؤمن الدفاع عن وطننا ومصالحنا الوطنية. نحن قادرون على اكتشاف أي غواصة أو خصم على السطح أو في الجو، وتوجيه ضربة كبرى إذا لزم الأمر”.

ترافق خطاب بوتين مع استعراض باهر للمعدات البحرية كدليل يثبت تصريحاته ويؤكّد التحديث العسكري الروسي على مدى العقدين الماضيين. لقد نهضت البلاد مجدداً بصفتها قوة بَحرية، فولّد ذلك أكبر موجات في البحر الأسود حيث سعت روسيا إلى إنشاء مجال نفوذ بحري جديد.

إذ إن تحركات موسكو هناك، بما في ذلك تحديث أسطولها في البحر الأسود والمطالبة بالمياه الإقليمية حول شبه جزيرة القرم، تهدد بقلب ميزان القوى في البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط وتعريض حرية الملاحة للخطر، ليس في تلك المياه فحسب بل في المياه العالمية أيضاً.

عودة روسيا

على مدى قرون، اعتبرت روسيا أن البحر الأسود فائق الأهمية بالنسبة إلى أمنها. لذا، أخذت الإمبراطورة كاترين العظيمة شبه جزيرة القرم من الأتراك العثمانيين في 1783، وضمّتها إلى روسيا، ثم أنشأ زوجها، الأمير غريغوري بوتمكين، أسطول البحر الأسود في “سيفاستوبول” خلال السنة نفسها.

في القرن التاسع عشر، تنافست روسيا مع القوى الكبرى الأوروبية من جهة ومع الإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى، على النفوذ في البحر الأسود وحوله. وفي المقابل، لم يصبح الاتحاد السوفياتي القوة المهيمنة في تلك المنطقة إلى أن وقعت “الحرب الباردة”، ولم تعادله قوةً سوى تركيا، البلد العضو في حلف الناتو.

كذلك، استخدم السوفيات البحر الأسود كي يبرزوا قوتهم في شرق البحر الأبيض المتوسط.وتالياً، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، شهدت روسيا انقلاباً مفاجئاً في مسارات النفوذ على البحر الأسود، إذ أصبحت جورجيا وأوكرانيا دولتين مستقلتين تسعيان إلى الاندماج مع الغرب، وانضمت بلغاريا ورومانيا [كانتا سابقاً ضمن المعسكر الاشتراكي الموالي للسوفيات] إلى حلف الناتو في 2004.

نتيجة لذلك، خسرت روسيا حق الوصول إلى أجزاء من ساحل البحر الأسود سيطرت عليها سابقاً بشكل مباشر أو غير مباشر. استطراداً، وافقت روسيا وأوكرانيا على تقسيم أسطول البحر الأسود بينهما، وقد ظل مقره الرئيسي في “سيفاستوبول”. في 2010، جددت كييف عقد إيجار الأسطول التابع لموسكو حتى عام 2042، ولكن بعد أن فرّ الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش من أوكرانيا في فبراير 2014 وتولّت حكومة جديدة موالية للغرب مقاليد الأمور، خشي بوتين أن تتملّص من ذلك الاتفاق.

وهكذا، بدأت العودة العدوانية لروسيا إلى منطقة البحر الأسود. في مارس (آذار) 2014، ضمّت موسكو شبه جزيرة القرم إليها واستولت على معظم سفن أوكرانيا في “سيفاستوبول”، ما أجبر البحرية الأوكرانية على نقل مقرها إلى “أوديسا”.

وآنذاك، قدّم بوتين تبريراً لتلك التحركات مدّعياً أنه لولا استيلاء روسيا استباقياً على شبه جزيرة القرم، “لانتهى المطاف بسفن حلف الناتو في سيفاستوبول، مدينة المجد البحرية الروسية”.

ومنذ ذلك الحين، ضاعفت روسيا ثلاث مرات ساحلها الفعلي على البحر الأسود، وعززت قواتها الصاروخية في المنطقة، مقويةً موقعها هناك من خلال مزيج من التكتيكات شملت المجالات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والمعلوماتية، إضافة إلى الطاقة.وبذا، أعادت روسيا تأكيد هيمنتها في البحر الأسود جزئياً من خلال حشد بحري كبير.

وانكب بوتين على إحياء القوة البحرية الروسية منذ دخوله الكرملين قبل عقدين من الزمن، كي يستطيع قلب اتجاه فترة الانحدار البحري السريع [التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي السابق] ويخلق بَحرية أكثر مرونة وحداثة ومتعددة الاستخدامات. ومع ذلك، منذ عملية الضم في 2014، ذهبت روسيا إلى أبعد من ذلك، إذ نشرت منصات وقوات وأسلحة جديدة في البحر الأسود ساعدتها أيضاً على زيادة نفوذها في شرق البحر الأبيض المتوسط الذي يشكّل مسرحاً حاسماً بالنسبة إلى عمليات موسكو في دعم الرئيس السوري بشار الأسد. كذلك حدّثتْ روسيا قاعدتها البحرية في ميناء طرطوس السوري، كجزء من محاولتها الأوسع في العودة إلى الشرق الأوسط.

في الوقت نفسه، طالبت موسكو بالمياه الإقليمية حول شبه جزيرة القرم باعتبارها مياهاً روسية، ساعيةً للسيطرة عليها. ومثلاً، في 23 يونيو (حزيران) 2021، دخلت المدمرة البريطانية “أتش أم أس ديفندر” فترة وجيزة إلى المنطقة الإقليمية الممتدة على مسافة 12 ميلاً حول شبه جزيرة القرم، بما أن ذلك حق لها بموجب بند “المرور البريء” الوارد في اتفاقية الأمم المتحدة عن قانون البحار.

وقد خططت العملية، وأخذت بعض الصحافيين على متن السفينة كي تطعن في مطالبة روسيا بالمياه المحيطة بشبه جزيرة القرم وتؤكّد حرية الملاحة. في المقابل، ردّت روسيا بغضب، مطلقةً طلقات تحذيرية على المدمرة البريطانية ثم ندّدت فيما بعد بما وصفه بوتين بالاستفزاز البريطاني الأميركي.

شكّل ذلك عرضاً مسبقاً عن نوع المواجهة البحرية التي قد تغدو أكثر شيوعاً، إذ تركّز روسيا على فرض تقبّلٍ عالمي لفكرة ضمّ القرم إليها، وتسعى جنباً إلى جنب مع الصين إلى تقويض المعايير البحرية القديمة.جيران متوتروناستطراداً، أدى سلوك موسكو الحازم إلى إصابة الدول الأخرى المطلة على البحر الأسود بالتوتر، بما في ذلك جورجيا وأوكرانيا.

وقد غزت روسيا البلدين في محاولة ترمي إلى منعهما من الانضمام إلى “الناتو”، وما زالت تحتلّ أجزاء من أراضيهما حاضراً. ونتيجة لذلك، نشأت لكل منهما علاقات عدائية مع موسكو، دفعتهما للعمل مع “الناتو” من أجل تعزيز دفاعاتهما البحرية. وبعد إصرار بوتين على أن الأوكرانيين والروس يشكّلون “شعباً واحداً”، واعتباره أن التعاون الأوكراني مع “الناتو” يمثل تهديداً للأمن القومي في روسيا، تفاقمت التوترات أكثر، فزادت المخاوف من توغل روسي موسّع في أوكرانيا.وعلى نحو مماثل، تبدي رومانيا، الحليف القوي لحلف شمال الأطلسي، حذراً أيضاً من القدرات العسكرية الروسية وتشكك في نياتها. في المقابل، تتمتع بلغاريا العضو في “الناتو” بعلاقات أوثق وأكثر تعقيداً مع موسكو، لكنها تظل ملتزمة بالتكامل مع الغرب.

فيما تفضل كل من رومانيا وبلغاريا وجوداً أكبر للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في المنطقة.في المقابل، تمثّل تركيا الدولة المطلة على البحر الأسود التي سيكون موقفها تجاه روسيا هو الأشدّ تأثيراً على محاولة بوتين للهيمنة البحرية في المنطقة. وثمة تاريخ طويل من الصراع بين روسيا وتركيا، وقد دار جزء كبير منه في البحر الأسود.

ولكن، منذ محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 2016، توثّقت العلاقات بين البلدين، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى دعم بوتين سرديّة أردوغان حول محاولة الانقلاب وامتناعه عن انتقاد الرئيس التركي لاتخاذه إجراءات صارمة ضد خصومه.

وفي بادرة تصبّ في خانة المجاملة الجديدة بين الدولتين، اشترت تركيا من موسكو أنظمة دفاعية جوية متطورة من طراز “أس- 400″، ما أغضب حلف الناتو ودفع الولايات المتحدة إلى إزالة تركيا من برنامج صناعة الطائرات المقاتلة “أف- 35”.وعلى الرغم من ذلك، لم تكن العلاقات التركية الروسية تعاونية بالكامل. إذ دعم البلدان قوات عسكرية متنافسة في ليبيا وسوريا. وخلال الحرب الأخيرة في “ناغورنو قره باغ”، أيّدت تركيا أذربيجان بينما توسّطت روسيا بين أرمينيا وأذربيجان.

وبعد وقف إطلاق النار، توجّب على روسيا أن تقبل دوراً تركياً في حفظ السلام في “الدول المجاورة لها”. كذلك تصاعدت التوترات بسبب دعم أردوغان القوي أوكرانيا وموقفه العلني بأن القرم ليست روسية بل أوكرانية. في يوليو، سلّمت تركيا أول طائرة من دون طيّار (درون) مسلحة إلى البحرية الأوكرانية، كدليل على تعميق العلاقات العسكرية التركية الأوكرانية، ما أثار بالتأكيد غضب روسيا. واستكمالاً، تملك أنقرة ورقة ضغط مهمة على موسكو، إذ يمكنها أن تمنح سفن “الناتو” إذن الوصول إلى البحر الأسود أو تمنعها من ذلك. على مدى الـ85 عاماً الماضية، نظّمت تركيا حركة النقل البحرية التجارية والعسكرية من وإلى البحر الأسود وفق “اتفاق مونترو” الذي يضمن حرية مرور سفن الشحن عبر المضائق التركية في أوقات السلم، ويفرض أيضاً مجموعة من الأحكام في تنظيم مرور السفن الحربية، على غرار ضرورة إخطار تركيا بتحركاتها [السفن] مسبقاً.

. وقد حافظت أنقرة على سياسة ثابتة من الحياد في تنفيذ “اتفاق مونترو”، ما يعني أنها في بعض الأحيان لم تمنح سفن الناتو حق الوصول.في السنوات الأخيرة، دفعت الولايات المتحدة تركيا إلى تبني تفسير أكثر ليبرالية لـ”اتفاق مونترو” كي يتمكن حلف الناتو من توسيع وجوده في البحر الأسود. ورفضت تركيا هذه الطلبات حتى الآن، لكنها قد تكون على وشك قلب الاتفاق رأساً على عقب لأسبابها الخاصة.

في هذا السياق، اقترح أردوغان مشروع قناة مثيراً للجدل من شأنه تحويل حركة المرور البحري بعيداً عن مضيق البوسفور المزدحم، نحو ممر مائي صناعي في غرب إسطنبول. بالتالي، لن تخضع هذه القناة الجديدة لشروط “مونترو”، ويعني ذلك أن السفن الحربية التابعة لحلف شمال الأطلسي قد تحظى نظرياً بمرور غير مقيد إلى البحر الأسود. وبالطبع، ليس من المستغرب أن ينتقد بوتين هذا المشروع ويضغط على أردوغان بهدف الحفاظ على “اتفاق مونترو”.

مواجهة موسكو

ينبغي أن تقرر إدارة بايدن كيف ستردّ على الوجود العسكري المتزايد للكرملين في منطقة البحر الأسود ومحاولته السيطرة على المياه المحيطة بشبه جزيرة القرم. إذ إن المخاطر الناجمة عن ذلك تتخطى روسيا والبحر الأسود، وقد يولد مصير المياه الإقليمية في شبه جزيرة القرم صدى عميقاً في بحر الصين الجنوبي، إذ تدّعي بكين سيادتها على معظم المياه الإقليمية هناك.

وتجدر الإشارة إلى أن مواجهة لعبة روسيا الرامية إلى فرض الهيمنة على البحر الأسود، ستستدعي مشاركة تركيا التي تتحكم في الوصول إلى البحر الأسود. حتى الآن، تبنت إدارة بايدن نهجاً حذراً تجاه أنقرة، فوافقت على رفض قضايا على غرار التراجع الديمقراطي في تركيا وسجلها في حقوق الإنسان. وفي المقابل، أنشأت [إدارة بايدن] علاقة عمل مع حكومة أردوغان بهدف معالجة عدد من القضايا ذات الأهمية للولايات المتحدة، بما في ذلك الإرهاب.

من جهة أخرى، لا حل في الأفق بشأن المأزق الناجم عن شراء تركيا أنظمة “أس- 400” واستبعادها لاحقاً من برنامج الطائرات المقاتلة “أف- 35″، إذ لا يرغب أردوغان في تعريض علاقاته مع موسكو للخطر، مهما كانت معقدة، حتى في الوقت الذي يقدم نفسه فيه بوصفه شريكاً ضرورياً لواشنطن في التعامل مع روسيا.

على الرغم من ذلك، سيتعيّن على إدارة بايدن الضغط على تركيا كي تعمل بفعالية أكبر مع “الناتو” في مواجهة روسيا ضمن البحر الأسود.على المديين القصير والمتوسط، يتوجب على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أيضاً الاستمرار في تقديم الدعم السياسي والعسكري لبلغاريا وجورجيا ورومانيا وتركيا وأوكرانيا، لمساعدة هذه الدول في بناء القدرة على الصمود أمام لعبة القوة الروسية في البحر الأسود.

إذ يجب عليهما [أميركا والناتو] أن يعملا مع جورجيا وأوكرانيا كي تحدثا جيشيهما في إطار التعاون المعزز مع “الناتو”، والأهم من ذلك، تحديد ومواجهة المعلومات المضللة الروسية التي تهدف إلى تقويض دور الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في المنطقة.على المدى الطويل، يتوجب على واشنطن أن تسعى إلى إقناع جميع دول البحر الأسود بالامتثال للاتفاقات الحالية التي تضمن حرية الملاحة وحق “المرور البريء” في المياه الإقليمية. إذ قد يُمثّل التخلي عن تلك الاتفاقات في شبه جزيرة القرم، تهديداً للأمن الإقليمي والتجارة الدولية والنظام العالمي السائد.*

أنجيلا ستينت زميلة غير مقيمة بارزة في “معهد بروكينغز” ومؤلفة كتاب “عالم بوتين: روسيا ضد الغرب ومع البقية”. بين 2004 و2006، شغلت منصب ضابطة في “الاستخبارات الوطنية عن روسيا وأوراسيا”، ضمن “المجلس الوطني للاستخبارات”.مترجم من فورين آفيرز، أغسطس (آب) 2021

مقالات ذات صلة

USA