من أغرب وأسلس تجارب المكر والخداع الأيديولوجي التي سمعتها ولاحظتها هي تجارب الذين نقلوا البارودة في سوريا خلال أيام معدودة جداً من كتف إلى كتف آخر، وانتقلوا من ضفة إلى ضفة بالضد منها في أقل من اسبوع، ولا شك أن ذلك لم يحدث إيماناً أو إعتقادا، إنما تماشياً مع متطلبات الحياة اليومية التي تستدعي للأسف ذلك الانقلاب الجذري من أجل الحفاظ على الذات، ورغم أننا خصصنا فيما مضى مقالة عن آفة النفاق والتملق والتي جاءت تحت عنوان” دولة المتملقين باقية وتتمدّد” إلى أني ههنا أراني متسامحاً نوعاً ما مع ذلك التصرف ليس لأني فعلتها يوماً لا سمح الله، ولا لأخفّف وزر اقترافها عن كاهل بعض من يزاولها من معارفي؛ إنما تسامحتُ وربما بررتُ الفعل بناءً على رداءة الواقع الذي يدفع الناس إلى ممارسة الغش والمداهنة ومنهم أبو باسل الطيّب.
وحقيقة بالنسبة لسرعة التأقلم مع الواقع الميداني، وسرعة الانقلاب في القشرة الأيديولوجية بدافع التملص من العقاب المحتوم، رأيت بأن الإنسان الأمي البسيط الذي عاش في سوريا وعايش كل تناقضاتها المتحركة خلال الأعوام السابقة، صار يعرف كيف يتعامل مع المجريات ومتناقضات الوضع الداخلي أكثر من أغلب جماعات التنظير السياسي والثقافي عن بُعد، حيث أن المواطن ومن الحرص على البقاء حياً، ومن أجل الحفاظ على ما تبقى لديه من الكرامة صار يغيّر لونه خلال أيام معدودة، ليس حباً ولا عن قناعة وإنما على الأغلب هو يفعل ذلك مكرهاً، ومن حيث المنطق هو قد لا يُلام، لأن تغيير لونه لم يكن إلاّ للحفاظ على نفسه حياً والتخلص من تطاول المسلحين عليه أياً كان شكل المسلح، لونه، اتجاهاته، أو ممولوه وداعموه، ومِن الذين لا أنسى حذاقتهم وديناميكيتهم وقدرتهم على إجادة التعامل مع المجريات شخصٌ قابلته في مدينة حلب السورية عام 2013 بُعيد اقتحام حي الشيخ مقصود شرقي في نهاية شهر آذار من قبل بعض الفصائل التي لا يُعرف إلى الآن إن كانت تابعة للأسد أم هي كانت حقاً تابعة للمعارضة، بالرغم من أن الكل كان يدّعي بأنه جيش حر، حيث لجأتُ وقتها إلى حي مساكن الشبابي في الأشرفية وجاورت شخصاً يعاني من مرضٍ عضال وهو من عشيرة البكارة يدعى أبو باسل، وبين الفينة والأخرى كنت أرى سيارات تابعة للجيش الحر تأتي إليه، ويتسامر مع العناصر إلى منتصف الليل ومن ثم يغادرون هم فيما يبقى أبو باسل مفترشاً الرصيف، وهو يراقب جاحظاً كل السائرات في سماء المدينة، ثم ينام في الخلاء وكأن البلد في أتم حالات انشراحه الأمني، إذ لم يكن يأبه للقذائف ولا يهتم بأمر رصاصات القناص الذي كان يُشرف على موقعنا من أعلى مبنى المشفى اليوناني بحي الأشرفية ، ولأن وضعه الصحي كان متأزماً جداً لذا توقعت بأنه يفترش الشارع علّ قذيفة ما تريحه من أوجاع الجسد، فسألته في إحدى المرات مازحاً ما شأنكم بالجيش الحر وأعرف أن أغلب عشيرتكم متهمة بموالاة النظام، حتى أنهم يعتبرون البكارة في حلب من شبيحة النظام، فرد أبو باسل بعد أن ارتاح إلي وقال: أخوي احنا صرنا جيش حر ليس حباً بالجيش الحر ولا كرهاً بنظام الأسد الفاجر! فقلت والسبب الذي دعاكم للانضمام للجيش الحر والتخلي عن أسد البعث، قال: لنحمي أنفسنا لا أكثر ولا أقل؛ فقلت كيف؟ قال عندما خرج حي بني زيد عن سيطرة النظام وبعض شبابنا كما أشرت متهمون بالتشبيح له، وبهذه الذريعة كانت فصائل من الجيش الحر تضغط علينا من يوم لآخر، وبحجة التشبيح يطالبوننا بتأمين كلاشينكوفات لهم، وبحجة التشبيح يفرضون علينا الأتاوات، وبحجة التشبيح يشبحون علينا بمختلف السبل، يبتزوننا ويهينون بعضنا بمناسبة وبدونها، وللتخلص من هذه الحالة جمعنا شباب العشيرة في حي بني زيد والأشرفية وقلنا لهم صراحةً لا حل لدينا للتخلص من إزعاجاتهم ومضايقاتهم لنا غير بالانضمام الى الجيش الحر، وفعلاً شكلنا كتيبة ورحنا حاصرنا مع المجموعات الأخرى فرع المخابرات الجوية القريب من حي جمعية الزهراء في حلب، وصرنا من وقتها جيش حر، وارتحنا بعدها وللأبد من إزعاجات بعض فصائل الجيش الحر التي كانت تمارس علينا التشبيح بحجة أن بعض شبابنا من شبيحة الأسد.
عموماً ما أكد لي رجاحة عقل أبو باسل هو ما أوردته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، هيلاري كلينتون، منذ فترة ليست ببعيدة أمام طلاب جامعة “ييل” في ولاية كنتيكت، أثناء حضورها حفل تخرج، وذلك حين إحضارها قبعة روسية من الفرو وعليها شعار الاتحاد السوفييتي، ولشرح تلك المفارقة وإعطائها الطابع الفكاهي قالت كلينتون ممازحةً “إذا لم تستطيعوا الانتصار عليهم انضموا إليهم”؛ وللأسف انضم إلى صفوف الجيش الحر منذ عام 2012 آلاف الحرامية والشبيحة ومن كانوا من رواسب النظام، طالما أن الإنضام لم يكن يكلف الفرد غير تغيير العلم وإطلاق بعض الشتائم على الجبهة التي خرج عنها من موقعه الجديد.
لذا فبناءً على ما قام به أبو باسل وما قالته هيلاري كلينتون وتجارب آلاف الشبيحة ممن صاروا جش حر لاحقاً، وبالرغم من أن عمرنا الزمني قد لا يكون مؤهلاً لتقديم الإرشادات وحيث حاخامات الأحزاب الكوردية كلها من قامشلو، إلا أننا مع ذلك نتجرأ ونقول للأخوة الديناميكيين في كوباني والجزيرة بأن يكونوا مهيئين لتشكيل كتائب فور استشعارهم بأن الأمريكان بدؤوا بالتخلي عن حزب الاتحاد الديمقراطي ومن يتبعه في تلك المناطق كما فعل الروس والأمريكان بهم في عفرين، أما بخصوص عناصر تلك الكتائب التي ستشكلونها لغرض الحماية لا غير، فليس بالضرورة أن يكون المنتسبون إليها من أصحاب الضمائر والقيم الإنسانية، إنما لا بأس بأن تتم الاستعانة بمن كانوا من بقايا المجتمع، من قطاع الطرق، من الحرامية وأصحاب السوابق في السلب والنهب والسطو والابتزاز، ولتسموها طبعاً جيش حر وذلك لإكسابها الصفة الشرعية كما فعل أبو باسل بالضبط، وذلك لا لأجل محاربة أحد في المعمورة، إنما على الأقل لكي تحموا ممتلكاتكم ممن كانوا شبيحة الأسد وصاروا لاحقاً جيش حر، وذلك قبل أن يجري في مناطقكم ما جرى في عفرين فور إعطاء الغرب والنظام الضوء الأخضر لتركيا بالدخول، وإن حدث ما يشبه ما جرى في عفرين فإن تركيا ستستعين وقتها بفصائل هي تماثل تماماً الفصائل التي ستشكلونها من أصحاب السوابق، وإن لم تكونوا على أهبة الاستعداد لذلك، ومع أني لستُ من رهط زرقاء اليمامة لأقول بأن المقتحمون حينها لن يرحموا أغلب الأهالي، وأن حال أهل الغزوة لن يكون أفضل من حال جيش التعفيش الأسدي في مخيم اليرموك، ولكن بناءً على التجارب الماثلة للعيان عليكم التوقع الدائم بأن لا تترك تلك الفصائل التي سترسلها تركيا إلى مرابعكم أخضراً في الجيوب أو سائرة في الشارع أو أثاثاً ببيوت الأهالي في عموم منطقتكم.