ابراهيم الجبين /موقع تلفزيون سوريا
بدت الصورة وكأن حركة طالبان تمكنت بقوتها وصمودها من طرد المحتلّ الأميركي وحلفائه من أرض أفغانستان، مذللة كل الصعوبات التي يمكن أن يتخيّلها المهتمون برصد القوة العسكرية الأميركية وجبروتها. وعادت مع تلك الصورة، غير الدقيقة، التي تتناسى مساراً طويلاً من المفاوضات لتسليم البلاد لطالبان عبر حوار الدوحة بشكل أساسي، جميع الأفكار المسبقة التي تقيس التعثّر العربي إزاء الاحتلالات التي يكابدها.
على أنها ليست المرّة الأولى في التاريخ الذي يكرّر فيها العرب جملة التهيؤات التي تعصف بعقولهم، فيتخيلون انتصاراً لحزب الله في جنوب لبنان بانسحاب الاحتلال الإسرائيلي منه، أو انتصاراً مشابهاً لغزّة وغير تلك الإنجازات التي لا يفارق فيها الحاكم والمحكوم دأبه بأن ينسب لنفسه ما لم يفعل.
ومنذ أن تخلّى العرب عن دورهم الريادي في قيادة العالم الإسلامي، قبل قرون، وهم ينظرون بنشوة إلى كل حدث يمكن استثماره لإعادة الأمل بتحقيق أمر مشابه. لكن ذلك لم يتحقق لأن البناء على باطل يبقى باطلاً في أبسط منطق.ما الذي قد يحدثه وهم طالبان الآن؟ وهي حركة سياسية نشأت بين طلاب العلوم الشرعية، تحوّرت عبر الزمن ووصلت إلى الحكم ثم زالت بزاول القاعدة بعد اندماج المشروعين لمواجهة عدو واحد كان قد أصبح آنذاك الولايات المتحدة بعد عهد طويل من التعاون والتسليح، وتوارت طالبان بعد أن انتشر فكرها بين الأفغان ذلك المجتمع المحافظ أساساً، والذي يتقبّل فكراً مثل فكر طالبان.
ومنذ تلك اللحظة والاستثمار في أفغانستان جار على قدم وساق، إيران التي تنسج ببطء منشغلة بالتكوين الطائفي لذلك البلد والتي لم تقصّر في دعم جميع الطوائف فيه، حتى جلبت أفواجاً منهم للقتال في سوريا ضد الشعب السوري (لواء فاطميون) وفي الوقت ذاته كان قاسم سليماني وجواد ظريف يقدّمان كل ما يمكن لتوطيد العلاقة مع الجناح السني لأفغانستان متمثلاً بطالبان، أما الأميركي الذي كان بوسعه البقاء إلى الأبد مهيمناً على تلك البقعة الصغيرة، باعتبارها قاعدة عسكرية من قواعده المنتشرة حول العالم لا أكثر، فقد أراد منها أمراً آخر سيرى العالم آثاره مستقبلاً. وحين كان ذلك يحصل لم يكن للعرب أي تدخّل يذكر في إعادة صياغة أفغانستان.
يعتقد العرب، شطر من المسلمين السنة تحديداً، أن صعود طالبان يبشّر بعض المشاريع المشابهة بسيناريو مطابق، دون النظر إلى الفوارق الكبرى التي لا تخطئها عين ما بين المجتمعات في أفغانستان من جهة والعالم العربي من جهة أخرى. فما يريده مجتمع مثل المجتمع السوري غير ما يريده الأفغان. وما يخلقه المحيط الإقليمي بمعطياته مختلف تماماً في الحالين. والمسار التاريخي لكل منهما لا يكاد يجد تطابقات تُذكر.
ظاهرة العمل الإسلامي أبرزها، وهي علامة التضليل في القياس. ومنها يجد التهليل لهيمنة طالبان اليوم على أفغانستان مسوغاته. ولكن ماذا بعد التهليل والتهنئة وتنفّس الصعداء؟ سيزداد المؤمنون بالإمارة الإسلامية إيماناً بها رافضين التفكير في حواشيها وهوامشها، وسيزداد المتخوفون منها هلعاً من استنساخها في أكثر من بقعة من بقاع العالم.
يغفل المؤمنون بذلك أن الإمارة الإسلامية في الذهن العربي، لم تكن قادرة على العيش طويلاً قبل أن يدخل عليها مصمّموها تعديلات جوهرية، وتطلبت قيادة الأمة الإسلامية من العرب، منذ لحظة نشوء الدولة الأموية، الإمساك بزمام الأمور كي لا تفلت من اليد، وضبط النزعة الفتحوية التي يمليها التطبيق الحرفي غير المحدّث للتعاليم الدينية، والتي تأمر بالتوسّع والتبشير، لا في الإسلام وحده بل في كافة الأديان والعقائد.
وكي تحفظ الدولة كان على حكامها أن يمدّنوها ويحولوها إلى ما هو أكثر من مجرّد هيكل من الزهد والتقشّف والاستحضار الماضوي لنمط الحياة. وفي الضفة المقابلة كان على المتأثرين سلباً من الإمارة العربية الإسلامية أن يسلبوها امتيازها ذاك معيدين عجلة الزمن إلى الوراء ومصرّين على أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك، ومسلمين أكثر من أصحاب الرسالة العرب إياهم.
فانتزعوها منهم وارتفعت راياتهم وانهارت مراراً من غير أن يبدو لأحد أن هناك أي مخرج من التورّط في مشاريع بلا حدود، سوى بالمعادلة ذاتها، والتي تتيح للعرب أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، بهويتهم الثقافية وإدراكهم الخاص لقيم الإسلام وماذا أرادوا منه من البداية.
واليوم فُتح المحور الذي يشق آسيا عرضياً، من أفغانستان إلى إيران إلى العراق الواقع تحت ظلال المرشد الولي الفقية إلى سوريا إلى الضاحية الجنوبية في بيروت على ضفاف المتوسط، فوق ذلك المحور وتحته يراقب الأطراف حجم التحوّل، ويحاولون قراءة المواقف الدولية، وعلى رأسها الموقف الأميركي الذي سلّم طالبان كما سلم داعش في العراق، وسيكون على الصراع أن يبدأ من جديد، لا بين سني وشيعي هذه المرّة، فلم تعد تلك اللعبة تنطلي على أحد، بعد تداخل الصيغتين الإيرانية والإسلامية السنية في خضّم ما يطيب لهما تسميته بـمحور “المقاومة” كما كان الحال عليه في الطور السابق، بل بين تصوّر حُكم وآخر
أما الذهن الآخر فيبدو في أضعف حالاته، وهو لا يملك سوى بضعة ماكيتات يستجلبها من التجارب الأوروبية، رافضاً الرد على سؤال كيف يكون الدستور في عشر دول أوروبية وأميركية لاتينية مستنداً إلى المسيحية بالنص، مشدّداً على الهوية المسيحية للدولة، بينما يُطالب بعض علمانيي الشرق أهل الشرق بالتخلي عن الإسلام كمرجعية لأي دستور قادم.
وللتذكير ببعض من ذلك؛ فإن دستور الدنمارك ينصّ على “أن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة المعترف بها من قبل دولة الدنمارك، وعليه ستتولى الدولة دعمها”. أما دستور النرويج فينص على “أن الانجيلية اللوثرية ستظل الدين الرسمي للدولة ويلتزم السكان المعتنقون لها بتنشئة أولادهم بموجبها”.
وفى أيسلندا تنص المادة 26 من الدستور على “أن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي كنيسة الدولة”. وفى إنكلترا ورد في “القانون الأعلى” أن كنيسة إنكلترا هي الكنيسة المعترف بها، وأن العاهل الإنكليزي بحكم منصبه، هو الحاكم الأعلى لكنيسة إنكلترا. وكجزء من مراسم التتويج يطالب الملك بأن يؤدى القسم “بالحفاظ على التسوية المبرمة مع كنيسة إنكلترا، وأن يحفظها بدون خروقات، كما يحفظ العقيدة والشعائر والنظام وطرق إدارتها وحكمها”.
وفي الأرجنتين ينص الدستور على “أن الحكومة الاتحادية تدعم الديانة الرومانية الكاثوليكية الرسولية”، وفي دستور إسبانيا نجد “أنه على السلطات العامة أن تأخذ فى الاعتبار المعتقدات الدينية للمجتمع الإسباني، والحفاظ على علاقات التعاون المناسبة مع الكنيسة”. أما في اليونان فإن الدستور يقول إن “الديانة السائدة في اليونان هي ديانة كنيسة المسيح الأرثوذكسية الشرقية والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، والتي تقرر وتتخذ من يسوع المسيح رأسا لها، تتحد بلا انفصام في عقيدتها مع كنيسة المسيح العظمى في القسطنطينية، كما تتحد مع كل كنيسة تدين بنفس العقيدة بقدر التزامهم في المقابل ودون أي شك أو مماراة بالشرائع والتقاليد الرسولية والمجامع المقدسة”.
والأمثلة عديدة على ذلك حول العالم.بلا قوّة على الأرض تسعفهم لفرض ما يريدون، إن لم يلجؤوا إلى الجيوش العربية كما جرت العادة خلال القرن العشرين وبعد الربيع العربي، لن يتمكن المؤمنون بدولة مختلفة عن الإمارة الإسلامية من إقناع جمهورهم، إذا لم يتجهوا نحو التنوير المجتعمي والتسويات التاريخية والتحديث الفكري لما بين أيديهم وما بين أيدي سواهم، وحتى يحصل هذا فسيبقى محور الجحيم الجديد مفتوحاً بلهيبه على كل الاحتمالات.