• الأحد , 24 نوفمبر 2024

عبد الله تركماني : رؤية سياسية وإدارية لسورية المستقبل (1 – 3)

عبد الله تركماني

(*)حوّلت السلطة السورية الدولة، منذ انقلاب البعث في 8 آذار/مارس 1963، من فضاء عام لكل المواطنين إلى فضاء خاص لأهل الولاء للسلطة الأمنية. وهنا تكمن أهمية تقديم رؤية سياسية أخرى لسورية المستقبل، تتمحور حول أسئلة السياسة الرئيسية:

تأكيد حيادية الدولة باعتبارها دولة كل مكوّنات المجتمع السوري، وخيارات شكل النظام السياسي، والنظام الإداري للنظام السياسي الجديد، والتعاطي مع أسئلة الدولة والمواطنة والحريات العامة والفردية، والسياسة الخارجية التي تخدم مشروع إعادة بناء سورية الجديدة. وفي سياق هذه المقاربة ندرك، بعد الدمار المجتمعي التي شهدته سورية، خاصة منذ سنة 2011، الصعوبات التي ستكتنف المرحلة الانتقالية، أي مرحلة التحول الديمقراطي، وهي من أهم إشكاليات سورية المستقبل.

لقد انطلق الحراك الشعبي السلمي، في آذار/مارس 2011، بعد أن انعدمت الحياة السياسية والمجتمعية طوال خمسين سنة. بحيث يمكن القول: إنّ الحراك الشعبي، في أحد أهم أبعاده، كان يهدف إلى استرداد السياسة وممارستها.فما هي المؤسسات الكفيلة بإنتاج حياة سياسية جديدة لكل مكوّنات الشعب السوري، وتكون مؤهلة لإعادة إنتاج الدولة الحديثة، بما يحوِّل حالة الفوضى الراهنة إلى عملية بناء، لا تقوم على الصراع وإنما على عقد الوطنية السورية الجامعة؟ وما الذي ينبغي تغييره؟ وكيف يتم تفكيك الدولة الأمنية؟ وكيف يعاد إنتاج النظام السياسي الذي يؤسس لنظام ديمقراطي، يؤسس للتغيير بكل مستوياته؟لا شك أنّ الأمر يتطلب إعادة هيكلة النظام السياسي، وإطلاق حرية تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وبناء جيش وطني حديث، إضافة إلى ضمانات لانتخابات نزيهة، وعدالة انتقالية، ومصالحة وطنية. وهكذا، يبدو أنّ ” إمكان السياسة في مجتمعنا مرهون بتغيير قواعد إنتاج السلطة وآليات اشتغالها، وأشكال ممارستها ” (1).

1: الحياة السياسية المنتظرة في سورية المستقبل

مستقبل سورية مرهون بعملية انتقال سياسي حقيقي، تنهي نظام الاستبداد، وتستبدله بنظام ديمقراطي. وبعد التغيير لابدَّ من إعادة تأسيس النظام السياسي، بداية من إعادة تنظيم الإدارة والحياة السياسية، بما يمكّن من توليد مجتمع مدني فعّال وأحزاب سياسية مؤثرة، تنال قدرًا كافٍ من ثقة المجتمع. والهدف هو “استعادة ثقة المواطن بالدولة”، مما يتطلب التوافقية بين السوريين لإنشاء “قواعد جديدة”، وصولًا إلى “عقد اجتماعي جديد”

(2).وتنطوي عملية الانتقال الديمقراطي في سورية المستقبل على تحديات عديدة، إذ إنها استجابة لوضعية مركبة، تبدأ بالسياسة ولا تنتهي بالدمار المجتمعي وتخريب العلاقات الإنسانية بين مكوّنات الشعب السوري، القومية والدينية والمذهبية، والتشكيك في أغلب المشروعيات، وهيمنة الاختيارات الفردية الخاصة.

وفي هذا السياق، إذا لم تدرك قوى التغيير الصعوبات التي تكتنف المرحلة الانتقالية، وبلورة مقاربات للتعاطي المجدي مع هذه الصعوبات، من خلال السعي إلى بناء التوافقات الوطنية، فإنّ تحقيق الاستقرار يبدو شبه مستحيل. أي يجب أن يدرك شابات وشباب سورية، عماد نجاح مرحلة التحوّل الديمقراطي ” يتطلب توفّر مجتمع نجا من أغلب معوّقات الديمقراطية، ومن أغلب التشوهات المجتمعية التي تتناقض جذريًا مع منطلقات وأهداف وممارسات أي نظام ديمقراطي “

(3).وهنا تبرز أهمية منظمات المجتمع المدني، التي تعزز القيم الإيجابية بين المواطنين السوريين، من خلال إطلاق الحوار الوطني في القضايا التي تهم الشأن العام.إنّ كارثة الشعب السوري تحتم اعتماد دستور عصري “يكفل حماية الحريات الأساسية والحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، الجماعية والفردية، لكل السوريين على قاعدة المساواة بينهم”

(4).ومن أجل ضمان حياة سياسية حقيقية يمكن أن نستفيد من خبرة حركات التغيير الديمقراطي بمجموعة من الدروس، من أهمها:

1 – إنّ التحوّل الديمقراطي يحتاج إلى عمل تراكمي متواصل، مما يدعونا إلى عدم الوهم بالتغيير السياسي السريع.

2 – باعتبار أنّ الديمقراطية عملية تراكمية، تعتمد على وجود الثقافة الديمقراطية، فليس ثمة ضمان أن يؤدي التغيير إلى تحقيق الديمقراطية مباشرة.إنّ نجاح عملية التحوّل مرهون بتوفّر: التوعية السياسية المكثفة لقطاعات واسعة من الشباب والنساء، وتشكيل “كتلة تاريخية”

(5) واسعة من القوى السياسية العاملة من أجل نجاح هذا الخيار، والاستفادة من الدعم الدولي لما يخدم الخيار الديمقراطي، وقطع الطريق على قوى الثورة المضادة.2: خيارات شكل النظام السياسيفي مرحلة ما بعد الكارثة السورية يُعتبر اختيار النظام السياسي المناسب، رئاسيًا أو برلمانيًا أم مختلطًا، مهمًا لتجنب ظاهرة عدم الاستقرار السياسي، إذ إنّ عدم الاختيار المناسب قد يؤدي إلى أزمات تعصف بالسلم الأهلي، خاصة إذا استمرت التجاذبات السياسية والاجتماعية التي شهدتها سورية خلال السنوات العشر الماضية.ومن أجل الخيار الأفضل سوف نستعرض الخصائص الرئيسية للأنظمة السياسية الثلاثة، ومن ثمَّ تحديد النظام الأنسب لسورية المستقبل

(6):النظام الرئاسي: حيث تتركز السلطات التنفيذية “الغنيمة الكبرى” في يد رئيس الجمهورية، ويعطي مجالًا رحبًا للأحزاب الكبرى لـ “الاستحواذ على القرار، في عملية دستورية غالبًا ما تجنح في دول التحول الديمقراطي إلى ما يشبه الفصل الجامد بين السلطات، بل والعودة من جديد إلى الدكتاتورية في معظم الأحيان”. ويبدو أنّ سورية المستقبل أحوج ما تكون إلى نظام سياسي يضمن التعددية، يتأسس على مشاركة واسعة من القوى السياسية، ويضمن الاستقرار.النظام البرلماني: يقوم على ثنائية السلطة التنفيذية، بحيث تكون مسؤولية الوزارة أمام البرلمان، ويكون رئيس الوزراء من الكتلة البرلمانية الأكبر، في حين تكون مسؤولية رئيس الجمهورية بروتوكولية.

ويقوم النظام البرلماني على فصل مرن للسلطتين التنفيذية والتشريعية، حيث تقترح الأولى القوانين للتصديق عليها من قبل البرلمان، بما لا يخالف الدستور، كما يحق للثانية استجواب الوزراء، وحجب الثقة عن الوزارة. وقد يكون النظام البرلماني مناسبًا لسورية المستقبل، لما ينطوي عليه من إمكانية “حسم تجاذبات واستقطابات العملية السياسية في المرحلة الانتقالية”.

إنّ النظام البرلماني ينطوي على مزايا عديدة، إذ يحدُّ من الصلاحيات المطلقة لرئيس الجمهورية، ويفتح في المجال لعمل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.النظام المختلط: يجمع بين النظامين السابقين، يكون فيه رئيس الدولة ورئيس الوزراء مشاركين في الإدارة اليومية لشؤون الدولة. ويختلف هذا النظام عن الجمهورية البرلمانية في أنّ رأس الدولة، الذي يُنتخب من قبل الشعب، ليس منصبًا شرفيًا، ويختلف عن النظام الرئاسي في كون مجلس الوزراء، رغم أنه معين من قبل رئيس الدولة، يخضع لرقابة البرلمان.

وبالرغم من بعض عيوب النظام المختلط، خاصة ” مشكلة التعايش المزدوج “، يبدو أنّ كلا النظامين السابقين، الرئاسي والبرلماني، غير صالحين لسورية في المرحلة الانتقالية، بل “يجب أن يكون رئيس الجمهورية شريكًا لمجلس الوزراء في السلطة التنفيذية في الصلاحيات والمسؤوليات”

(7)، من أجل تجنّب ظاهرة “عدم الاستقرار السياسي”.3: التنظيم الإداري للنظام السياسي الجديدمن المؤكد أنّ السوريين، بعد معاناتهم طوال ما ينوف عن خمسين سنة من الدولة التسلطية التي قامت على المركزية والسلطة الفردية، وبعد عشر سنوات من ثورة الحرية والكرامة، باتوا يطمحون إلى الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، إلى دولة المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات.

وبعد أن جرّبوا نظام الحكم المركزي، واكتشفوا إهمال مناطقهم البعيدة عن المركز، خاصة في مجالات البنى التحتية: الطرق والمراكز الصحية والتعليمية والمنشآت الاقتصادية، فإنّ ثمة شبه إجماع على خيار نظام اللامركزية الإدارية الموسّعة

(8).إذ تتميز سورية بتعدد الهويات الثقافية لمكوّناتها الاجتماعية، ويبدو أنّ التنظيم الإداري الذي يمكن أن يحتضن هذا التعدد ويوظّفه باعتباره غنى للجمهورية السورية الثالثة، يتمثل في اللامركزية الإدارية الموسّعة، على أساس جغرافي وليس قوميًا أو طائفيًا، تتمكن فيه كل شرائح الشعب السوري إعادة بناء هيكلتها الإدارية المحلية، بصلاحيات واسعة في المحافظات والمناطق والنواحي والبلدات. وعندما تضمن هذه الشرائح تمثيلها في مناطقها، فإنها ستقوم بانتخاب ممثليها وفقًا للمصلحة العامة والكفاءة والفاعلية والمردودية.ويتحدد فهمنا للامركزية الإدارية الجغرافية على الأسس التالية

(9):1- قيامها على وحدة سورية وطنًا لكل السوريين، من خلال تنظيم الإدارة المحلية، وتنظيم تقاسم الموارد، لمنع تسلط المركز، واستحواذه على معظم موارد البلد، وضمان توسيع المشاركة في الحكم وصياغة القرارات المصيرية.

2 – لا تعني قيام كل محافظة بإقامة علاقات خارجية أو تشكيل جيش أو عملة أو علم خاصين بها، وإنما تعني إدارة شؤونها في قضايا التعليم والصحة والخدمات والأمن الداخلي، أما الشؤون السيادية، وضمنها الخارجية والدفاع وإدارة الاقتصاد، فتبقى في يد السلطة المركزية.

3 – تقوم على أساس جغرافي، وليس على أساس قومي أو طائفي، لأنّ ذلك يتناقض مع دولة المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات.

4 – لا يتم تعريف المواطن بقوميته أو دينه أو مذهبه أو جنسه، فالمكانة الحقوقية متساوية لكل المواطنين.وبذلك يتوفر التنوّع في الممارسة الإدارية بين الوحدات المحلية، وهو ما قد يقدم نماذج أكثر فاعلية لخدمة المواطنين، ويترك لهذه الوحدات الفرصة لتحديد الأنسب لبيئتها المحلية في مجال الخدمات والضرائب والإطار العام للحياة، مع مراعاة خصوصيات السكان في كل منطقة.إنّ الإدارة الذاتية اللامركزية، بما تتضمنه من سلطات لامركزية، تخفف من هيمنة السلطة الحاكمة أيًّا كان شكلها.

وتحدُّ من غلو المشروعات الطائفية والقومية الضيقة الانفصالية بمرجعية مبادئ إدارية متضمنة في الدستور. بما يعني توزّع السلطة بين المركز والمحافظات، بحيث يكون لسورية نظامان للبرلمان: أحدهما في المستوى الوطني، والآخر في مستوى المحافظة الواحدة، يقوم بتشكيل حكومة محلية ومراقبة عملها، بما يتعلق بتنفيذها لبرامج التنمية الشاملة.

الهوامش1 – راجع جاد الكريم الجباعي: السياسة ما بين الحكمة والعقل – موقع مركز حرمون للدراسات المعاصرة 18 أيار/مايو 2020.2

– راجع برنامج الأجندة الوطنية لمستقبل سورية، برعاية اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “إسكوا”، محور الحوكمة، الحوكمة السياسية – 2016.3

– راجع علي محمد فخرو: النضال ضد معوقات الانتقال الديمقراطي – صحيفة ” القدس العربي ” 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2020.4 – راجع نزار أيوب: أفكار حول المبادئ الراسخة في دستور سورية المستقبلي – موقع مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 8 شباط /فبراير 2018.5 – تعود فكرة “الكتلة التاريخية” إلى المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، التي تبلورت لاحقًا في اللقاء التاريخي الذي جمع الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الشيوعي الإيطالي، من أجل إعادة بناء إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية.

ولا تمت الفكرة إلى “الجماهيرية” والحركات “التوليتارية” بصلة. وفي هذا السياق ليس من قبيل الترف الفكري الدعوة إلى ضرورة تطوير نسق سوري ديمقراطي مؤسس على مشروعية التعددية وحق الاختلاف يؤسس “الكتلة التاريخية السورية”، إذ العبرة ليست بتحقيق التحوّل الديمقراطي فحسب، ولكن توفير ضمانات استمراره وعدم التراجع عنه.

وفي هذا التصوّر للتسوية التاريخية يندرج كتاب “نحو كتلة تاريخية ديمقراطية فيالبلدان العربية” (تحرير علي خليفة الكواري – مركز دراسات الوحدة العربية).6 – راجع محمد خالد الشاكر: المرحلة الانتقالية وإشكاليات بناء الدولة السورية (من الإعلان الدستوري إلى الدستور) – موقع مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 25 آذار/مارس 2017.7 –

راجع خلدون سماق: تحليل الوضع السياسي للنظام السوري، دراسة في بنية ركائزه، وتحولات المستقبل – موقع مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2016.

8 – هو أسلوب إداري يقوم على توزيع الوظيفة الإدارية بين الجهاز الإداري المركزي وهيئات أخرى مستقلة على أساس إقليمي أو موضوعي. وهي بذلك تختلف عن اللامركزية السياسية في كونها تقتصر على الوظيفة الإدارية، وفي إمكان قيامها في الدول المركبة والدول البسيطة على السواء.عن: برنامج الأجندة الوطنية لمستقبل سورية، برعاية اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “إسكوا”، محور الحوكمة وبناء المؤسسات والتحول الديمقراطي، الدستور – 2016.9 – راجع جمال الشوفي: تمكين القانون الوضعي كخلاصة حقوقية للعقد الاجتماعي (سورية المنهكة دولة المواطنة والدستورية الممكنة) – مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” 23 تشرين الأول/أكتوبر 2018.(*) – جزء من دراسة ” إعادة بناء الحياة السياسية “، نُشرت في موقع ” مركز حرمون للدراسات المعاصرة ” – 15 آذار/مارس

مقالات ذات صلة

USA