محمد أبو رمان العربي الجديد:13/9/2022
يقدّم كتاب “الحوزة والدولة: الإسلام الشيعي… أسئلة السلطة والمرأة والجيوبوليتيك” دراسات وأبحاثا مهمة تتناول الصيغة الشيعية من الإسلام في العالمين، العربي والإسلامي، من زوايا متنوعة، ومن خلال نخبة من الباحثين والدارسين المتخصصين.
صدر الكتاب حديثاً عن معهد السياسة والمجتمع في عمّان بالتعاون مع مؤسسة فريدريش أيبرت الألمانية، وحرره عبد الله الطائي.
ويتوافر على فصول رئيسية، تبدأ بالتعريف بالفكر السياسي الشيعي ومدارسه المتعدّدة، وفي هذا الفصل، يساهم محسن كديفار (أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ديوك وتلميذ آية الله حسين علي منتظري)، بدراسة على درجة عالية من الأهمية في مناقشة الأفكار السياسية الشيعية، ويصل إلى نتائج ونظريات تقرّب كثيراً ما بين الشيعة والسنة في الموقف من الإمامة من جهة، ومن النظريات والممارسات الديمقراطية من جهةٍ ثانية، ويعيد بناء التصور السياسي الشيعي في موضوع السلطة والاختيار والتعيين والمفاضلة بين الخلفاء بطريقة مغايرة عن النظريات السائدة.
ولعلّ ما يلفت الانتباه أكثر فيما كتبه كديفار أنّ مدرسة “الولي الفقيه” لا تمثّل تيار الأكثرية في الفكر الإسلامي، القديم والمعاصر أيضاً، فهي، على صعيد المدارس الدينية، تشكّل مدرسة الأقلية، لكن ارتباطها بالثورة في إيران والإمساك بالسلطة جعلها تبدو كأنّها المدرسة الكبرى، ويضرب كديفار أمثلة ونماذج عديدة لصحة ما يقوله.
ينتقل الكتاب، في الفصل التالي، إلى مناقشة التحولات الفكرية والسياسية في إيران في مرحلة ما بعد الثورة، ويناقش مسألة دور الحوزة في التوجيه والاستقطاب السياسي. إذ يرى علي المعموري في ورقته أن الثورة الإسلامية في إيران وما تمخض عنها من نظام إسلامي لم يكن محض مصادفة، بل سبقتها حراكات اجتماعية وسياسية وسط تقلبات الهوية الحائرة بين التراث والحداثة، في ظل نظام سياسيٍّ كان يوصَف بأنه ديكتاتوري، ما دفع الحلم الجماعي إلى استعادة دور الدين.
كما شهدت إيران، منذ أيامها الأولى لانتصار ثورتها، مناظرات مهمة أصابت جوهر وجودها السياسي وجدالات عميقة، كمن كان يدعو إلى أسلمة المجتمع بدلًا من أسلمة النظام السياسي ومن رأى أسلمة النظام والمجتمع في آن معًا. فيما يرى ساري حنفي أن الحوزة والتعليم الديني تعرّضا لإشكالية الانتقال من الاستقلالية الى التبعية للمؤسسة السياسية، ففي معرض قوله، يذكر حنفي أنّ الحوزات بعد الثورة الإسلامية في إيران بدأت تخسر من استقلالها عن السلطة السياسية بتأثير التمويل الإيراني السخي.
ويسلط حنفي الضوء في هذا المجال على الحالة اللبنانية بدرجة رئيسية والمدارس الدينية الشيعية هناك، إذ يرى أنّ إيران تحاول فرض مناهج معينة على حوزات شرطا للدعم، كما حدث مع حوزة السيد حسين فضل الله، الشخصية اللبنانية الشيعية البارزة.تتناول فصول في الكتاب القوى الشيعية في العراق (دراسة عقيل عباس) وسجالات الهوية والأجيال الجديدة التي شكلت حركات الاحتجاج في الأعوام الأخيرة، وتبحث في الأحزاب الشيعية في البحرين، بخاصة حركة الوفاق، والحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان (لكل من عبد الله الجبور ومهند الحاج علي وأحمد ناجي).
أمّا ملف الجيوبوليتك الشيعي الجديد في المنطقة، بخاصة بعد الربيع العربي، فناقشته دراسة فراس إلياس الذي يقدّم تأطيراً لتحوّل الدور الإيراني منذ الثورة الإيرانية إلى المتغيرات الدولية والإقليمية أخيرا، ويبين كيف أن الجيوبوليتيك الشيعي ساهم في عملية انطلاق موجة التسييس المعاصر، المبني على الهوية الدينية، وهي إحدى الوظائف الجيوسياسية التي أدّاها الشيعة في الوقت الحاضر، وذلك عبر الربط بين النظرية والتطبيق في سياقات العقل الاستراتيجي الإيراني.
وفيما يجادل عماد أبشناس أنّ إيران، في النهاية، خرجت من فكرة الإصرار على الفكرة القديمة لرجال الدين الشيعة المختزلة في أن الجميع يجب أن يكونوا شيعة اثني عشريين إلى فكرة التعامل مع الاتجاهات الفكرية المختلفة في المنطقة، حتى التي ليست شيعية وليست على وفاق مع الفكر الشيعي الاثني عشري، وبات النفوذ الإيراني اليوم يتوسّع بسبب هذه السياسة، على الرغم من أن لدى معارضي إيران إمكانات هائلة لا يمكن مقايستها مع إيران بشكل عام.
بالضرورة، لم تأخذ دراسة أبشناس بعين الاعتبار الزوايا الأخرى من الرؤية، بخاصة عملية توظيف العامل الشيعي في توسيع النفوذ الإيراني، والتحول من مبدأ تصدير الثورة ورعاية الحركات الإسلامية عموماً، كما كانت عليه الحال مع الخميني، إلى استثمار الورقة الطائفية وبناء النفوذ الإيراني (بصورة ملحوظة منذ حقبة الرئيس محمد نجاد 2005) على خطين متوازيين؛ الأول هو الطائفي، كما نرى في العراق وسورية ولبنان واليمن، والثاني وهو السياسي، وهما خطّان متداخلان، لكنهما يخدمان، في نهاية اليوم، المصالح القومية الإيرانية في المنطقة وفكرة صعود إيران قوة إقليمية، بخاصة منذ حرب العراق 2003، ثم محطة الربيع العربي2011 (كما يبرز ذلك الباحث الإيراني في مركز الدراسات الاستراتيجية في إيران، كيهان بارزيجار، في ورقة مهمة له عن العامل الشيعي في السياسة الإيرانية).ولعلّ أحد الفصول الغنية معرفياً في الكتاب موضوع المرأة الشيعية، وفيه دراستان على درجة من الأهمية، الأولى للباحثة العراقية إلهام مكي “تشكيل الذات وتحولات أدوار النوع “الجندر” في حيوات النساء الإسلاميات الشيعيات داخل الحوزات العلمية”، وتسبر أغوار المرأة الحوزويّة التي ينتابها الغموض إلى حد ما.
وتخلص مكّي إلى أن تصورات النوع (الجندر) متغيرة بحسب السياقات العامة، وأن الأدوار الجديدة ترتب على إثرها وضع ومكانة جديدان. وقد فرض التغيير السياسي في العراق 2003 واقعًا جديدًا على أدوار النساء الإسلاميات من الشيعة ومكانتهن.
تتناول دلال البزري في ورقتها واقع المرأة الشيعية في لبنان في ظل وجود قطبي الطائفة (حزب الله، حركة أمل) وتسلط الضوء على دور المرأة وتمثيلها، وترى أن ثمة مفارقات، فالنساء الشيعيات، مثل بقية اللبنانيات، اكتسبن، خلال العقود السابقة، مهارات الخروج من المنزل، من تعليم وعمل ومشاركة في الشأن السياسي العام. وفي المقابل، على الأرض، يتعرّضن لأفكار وطرق عيش يفرضها عليهن حزب أصولي وصفته البزري بالمتشدّد، بمشاركة حزب مذهبي أقلّ منه قوة وتشدّدًا.
وبداخل هذه المفارقة هناك ديناميكية، لا يُعرف حجمها تمامًا، ولا يُتوقع لها غير نوع من شبه الصراع الصامت، أو المتفجِّر.يقدّم الكتاب، من وجهة نظر كاتب هذه المطالعة، إضافة مهمة للمكتبة العربية في فهم الإسلام الشيعي، بعيداً عن الصورة النمطية الراكدة في العالم العربي تجاه إيران والشيعة، التي تأخذ الموضوع من زاوية أيديولوجية أو عقائدية، سواء مع هذا الطرف أو ذاك، من دون أن تكون لدى الأوساط البحثية والفكرية العربية دراسات معمّقة وقراءات موضوعية كافية لفهم التحولات والتغيرات والديناميكيات التي تحدُث في أوساط الشيعة العرب وفي علاقتهم مع طهران؛ وهو ما حاول الكتاب القيام به، وهذا يتطلب فهم الواقع السياسي الشيعي المعاصر، بخاصة في العالم العربي، وتحليل العوامل المتداخلة والمتعددة التي ساهمت (وتساهم) في تشكلات الحالة السياسية الشيعية، وعلاقاتهم مع دولهم ومع المحيط العربي والعلاقة مع إيران.