د. سمير صالحة* – 17 تشرين الثاني 2022 ( Asas Media )
-خيّبت أحلام البشير، منفّذة العمل الإرهابي في جادّة الاستقلال، قلب إسطنبول النابض، بعد ظهر الأحد المنصرم، أحلام المراهنين عليها تسجيل اختراق أمنيّ كبير وتفجير الداخل التركي سياسياً وإعلامياً واقتصادياً.
الانفجار هو الأوّل من نوعه منذ 5 سنوات في إسطنبول، الأمر الذي أثار التساؤلات عن توقيته ودلالات اختيار الزمان والمكان لتنفيذه.استهدف التفجير عمق إسطنبول التجاري والسياحي في “بي أوغلو”، هذه المنطقة التي لا تختلف كثيراً عن “الشانزليزيه ” الباريسي أو “أوكسفورد ستريت” البريطاني أو “داون تاون” البيروتيّ، وأودى بحياة مدنيين أبرياء ذنبهم الوحيد أنّهم كانوا في المكان.
لكنّ الحركة عادت سريعاً إلى طبيعتها في جادّة الاستقلال. لا القيادات السياسية التركية ولا المواطنون ولا قوافل السيّاح التي تدفّقت على المكان يريدون منح منفّذي الهجوم ومَن يقف خلفهم فرصة تحقيق أهدافهم والتأثير على الوضع الداخلي الأمني والسياحي في إسطنبول.الأمن التركيّ يُسقط “أحلام” الإرهاب :
خلال ساعات فقط كانت قوى الأمن التركية تعتقل منفّذة الجريمة وأكثر من 50 شخصاً تعاونوا معها وسهّلوا لها التنقّل والتخفّي وقدّموا لها الدعم اللوجستي.طبعاً لم تكن قيادات التنظيم تعوّل على نجاح سريع لأجهزة الأمن والاستخبارات التركية بهذا الشكل.
12 ساعة من الجهود، التي بذلها 8 محقّقين عدليّين تحت إمرتهم المئات من رجال الأمن والوحدات الخاصة، كانت كافية للتدقيق في أكثر من 1200 كاميرا مراقبة منتشرة في موقع الانفجار، والكشف عن هويّة الفاعل وتنقّلاته، ومعلومات سائق الأجرة الذي قام بنقله، واعترافات المشاركين في المخطّط الذين كشفوا النقاب عن مكان تخفّي أحلام التي أسقطت باكراً حلم البعض في لعب أوراقها.
كيف ستكون المرحلة المقبلة بعد التفجير في جادّة الاستقلال؟ السؤال بدأ يناقَش بكلّ تفاصيله السياسية والأمنية، بعدما فشلت حاملة الرسالة، التي كانت حتماً أبعد من زرع قنبلة في إسطنبول، في نقلها.
كان الهدف، كما تُجمع آراء وتصريحات كبار السياسيين والمحلّلين الأتراك، تضييق الخناق على الانطلاقة التركية الإقليمية في أكثر من مكان، عبر تحريك خليّة نائمة منذ 4 أشهر في إسطنبول، لكن لم تنجح المحاولة. ما الذي سيجري بعد ذلك؟ أين وكيف وعلى من ستردّ أنقرة؟ وهل يتضمّن ردّها توجيه رسائل سياسية إلى الطرف الأميركي الذي يقف إلى جانب من تتّهمهم تركيا بتنفيذ التفجير؟ لا بل كيف ستتعامل واشنطن مع هذا الكمّ الهائل من الانتقادات والاتهامات السياسية والإعلامية والشعبية المنبعثة ضدّها من الداخل التركي؟الحقائق والردّ الآتي :
هناك الكثير من الحقائق والأدلّة حتى الآن كما يبدو المشهد من الداخل التركي:
– المرأة التي نفّذت العملية، والتي اعتُقلت بعد ساعات، اعترفت بانتمائها إلى مجموعات حزب العمّال ووحدات الحماية الكردية التي أشرفت على تدريبها وإعطائها الأوامر من الداخل السوري.
– الكثير من الاعترافات والمعلومات الأمنية بيد السلطات التركية، والتحقيقات والتحرّيات مستمرّة بحثاً عن المسؤول الذي أدار العملية في تركيا.
– أنقرة ستردّ على هذا الاعتداء، والاحتمالات متعدّدة، بينها مواصلة تصفية قيادات وكوادر “قسد” الرئيسية في الشمال السوري، أو شنّ عملية عسكرية ذات طابع استراتيجي ضدّ مراكز وحدات الحماية مدعومة بالمسيّرات وبقبول أميركي وروسي.
– إفشال مخطّط إشعال الداخل التركي سياسياً واقتصادياً وسياحياً، وتخييب آمال حزب العمال في إثبات قدرته على الاختراق وافتعال البلبلة والردّ على العمليات العسكرية اليومية ضدّ “قسد” في شمال سوريا، وجرّ تركيا إلى مواجهات أكبر مع شركائها وحلفائها بسبب الملفّ السوري، وكذلك قطع الطريق على عرقلة سيناريو حوار سياسي جديد بدأ يدور الحديث عنه في الآونة الأخيرة بين حزب العدالة الحاكم و”حزب الشعوب الديمقراطية” صاحب النفوذ القوي في جنوب شرق تركيا. كلّها مؤشّرات تعكس حجم الفشل وخيبة الأمل.
– لا تستبعد أنقرة أيضاً، وهي تواصل مطاردة خلايا حزب العمال في إسطنبول، احتمال وجود أصابع أجهزة استخبارات إقليمية حرّكت هذه المجموعات للقيام بهذا التفجير من أجل إلهائها بملفّات داخلية، بعدما وسّعت رقعة تحرّكاتها ونشاطاتها ذات الطابع الاستراتيجي الإقليمي.
عليه يكون السؤال: هل هناك مَن تعمّد توجيه رسالة معيّنة والربط بين اعتقال الفاعلة وهي ترتدي كنزة عليها رسم كبير تحت كلمة “نيويورك” لحظة إلقاء القبض عليها وبين من يريد توتير العلاقات التركية ـ الأميركية أكثر ممّا هي متوتّرة؟
سؤال في العلاقات التركيّة ـ الأميركيّة :قال المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا جيمس جيفري إنّ انسحاب القوات الأميركية من سوريا على الطريقة الأفغانية من الممكن أن يولّد صدمة مزعزعة للاستقرار، وسيمنح روسيا وإيران نصراً استراتيجياً.
لكنّ مشكلة جيفري ليست مع موسكو وطهران وحدهما بعد الآن، فهناك أيضاً الجانب التركي الغاضب في هذه الآونة.بعد أيام فقط على تصريحات الدبلوماسي الأميركي حدث انفجار “تقسيم” الذي أودى بحياة 6 مدنيين والعشرات من الجرحى.
وكانت تصريحات وزير الداخلية التركي سليمان صويلو بأنّ التحقيقات مع العشرات من الموقوفين بتهمة المشاركة في تفجير جادّة الاستقلال أثبتت أنّ الأوامر جاءت من قيادات حزب العمّال و”قسد” في مدينة كوباني شمال سوريا.
كان صويلو أكثر صرامة عندما أعلن أنّ “البعض قد يحزن الآن، فقد ألقينا القبض على الشخص الذي أمره التنظيم بقتل منفّذة الجريمة” لإخفاء كلّ الأدلّة.
سيكون هناك المزيد من المعلومات الأمنية عن تفاصيل ما جرى، لكنّ رفض وزير الداخلية لبرقية التعزية التي نشرتها السفارة الأميركية تحمل معها أكثر من مؤشّر إلى التوتّر المحتمل بين الجانبين.
إنّ نظرة خاطفة على ردود الفعل والتعليقات المكتوبة تحت بيان التعزية الصادرة عن السفارة الأميركية في أنقرة على موقعها الإلكتروني تعكس حجم حالة الغضب والانفعال الشعبي داخل تركيا حيال سياسة واشنطن في سوريا، وتمسّكها بدعم هذه المجموعات تحت ذريعة محاربتها إرهاب تنظيم داعش.
إذا لم تتخلَّ الإدارة الأميركية عن سياسة الدفاع عن هذه العناصر في شمال سوريا تحت شعار أنّها الوحيدة التي تقاتل مجموعات “داعش” جنباً إلى جنب مع القوات الأميركية، فلن يكفي القول إنّ الرئاسة التركية قرّرت الذهاب باتجاه مغاير لموقف وزير الداخلية، حتى لو أعلنت دائرة الاتصالات أسماء الدول التي تقدّمت بواجب العزاء والتضامن مع أنقرة، وشكرتها على ذلك، وكانت أميركا واحدة منها.
خطّة تركيا في الملفّ السوريّ :
التطوّرات الأخيرة المتعلّقة بالشقّ الأمني والسياسي والدبلوماسي قد تسرّع أكثر تنفيذ خطة تحرّك مرتبطة بالملف السوري وتحمل معها الكثير من المفاجآت:
– التقى الرئيس إردوغان على هامش أعمال قمّة الدول العشرين في بالي نظيره الأميركي جو بايدن، على الرغم من أنّ جدول أعمال الرئيسين لم يذكر شيئاً عن لقاء محتمل بينهما.
الواضح أنّ تفجير إسطنبول هو الذي فرض عقد مثل هذه القمّة. التعزية الأميركية أوّلاً، ثمّ الحديث في التفاصيل. تحدّث إردوغان حتماً عن تمسّك تركيا بعمليّتها العسكرية في شمال سوريا ضدّ مجموعات “قسد”.
فهل تمسّك بايدن مرّة أخرى برفض بلاده عمليّةً من هذا النوع تتعارض مع مصالح واشنطن وشركائها المحليّين هناك؟
– احتمال أن تعرض أجهزة الأمن التركية العناصر الأساسية المشارِكة في تفجير “تقسيم” أمام الكاميرات وتنشر اعترافاتهم بالصوت والصورة، هي مسألة غير مستبعدة من منطلق أنّها قد تكون رسالة سياسية وإعلامية وأمنيّة للداخل والخارج، وقد تساهم أيضاً في تليين واشنطن لمواقفها وتشعل الضوء الأخضر لردّ القوات التركية على من تحمّلهم أنقرة مسؤولية الاعتداء، وإلا فإنّ المتبقّي أمام واشنطن هو ما أشار إليه إردوغان في قمّة بالي ومضمونه أنّ “من يدعم هذه المجموعات هو شريك لها في كلّ قطرة دماء تركيّة سقطت”.
– عُقد أخيراً لقاء استخباري أميركي روسي رفيع المستوى في أنقرة، وكان الملف الأوكراني في قلب المحادثات، لكنّ ملفّات تعني تركيا وعلى رأسها الملف السوري لا بدّ أنّها نوقشت أيضاً.
تسعى القيادات السياسية التركية إلى تسجيل اختراق هناك قبل موعد الانتخابات التركية في حزيران المقبل، ولن تقبل بعد الآن بالعرقلة الأميركية أو الروسية أو الإيرانية لحسم موضوع الشمال السوري في إطار تسوية سياسية أوسع للأزمة في سوريا. الأهمّ الآن هو معرفة حجم تقدّم الحوار الحاصل بين أجهزة الاستخبارات التركية والنظام في دمشق، وهل يفتح الطريق أمام هذه الصفقة الكبيرة التي تسعى أنقرة إلى إنجازها؟ الجواب في الأيام المقبلة.*كاتب وأكاديمي تركي.