مضر رياض الدبس / العربي الجديد
النيكرو – سياسة”، أو النيكربوليتكس (Necropoitics)، مصطلحٌ نحته الفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي (Achille Mbembe)، مستندًا إلى أفكار ميشيل فوكو في السياسة الحيوية وبانيًا عليها، ويعني حرفيًا “سياسة الجثث”. وأراد مبيمبي منه أن يقول، بتكثيفٍ شديد: ثمّة استعمال جديد للسلطة الاجتماعية والسياسية، يجرى بموجبه تحديد من يعيش ومن يموت، أو من يستحقّ الحياة ومن يستحقّ الموت. وعلى الرغم من أن هذا المصطلح، بالمعنى المُكثَّف أعلاه، يعمل أيضًا لتوصيف الأنظمة الشمولية في المنطقة العربية قبل 2011، حيث كانت الأنظمة التسلطية في سورية وتونس واليمن ومصر والسودان وليبيا وغيرها تحدّد بالفعل من يحيا ومن يموت، لكن المصطلح لا يبدو أنه لا يزال صالحًا لتوصيف الحالة في المنطقة العربية بعد 2011، إلا بعد أن يخضع لتعديلٍ وإضافة.
وتطرح هذه المادة إضافةً جديدة إلى المصطلح ليصير قابلًا للاستعمال العربي الراهن.
يفترض مصطلح النيكروبوليتكس وجود تحديد: يعني أن ثمّة من يُحدِّد الذين يستحقون الموت، ومن ثم الذين يستحقون الحياة؛ إلا إن نظامًا مثل النظام السوري مثلًا، قد طوّر برميلًا متفجرًا غير دقيقٍ يرميه الطيارون بصورة عشوائية من الحوّامات العسكرية، فيقتل على الأرض “أيًا كان” من دون أي تحديد. إنه مصمَّمٌ للقتل من أجل التخويف بالقتل، فهو لا يحدّد من يعيش ومن يموت، بل يقتل فحسب، من دون تسديدٍ حتى.
يلائم البرميل أهداف الحرب الجديدة في المنطقة، وهي غير الأهداف التقليدية المعروفة؛ فهدف الحرب الآن القتل والتدمير فحسب، وليس تحقيق أهدافٍ استراتيجية يُقاس بوساطتها النصر كما في السابق: إننا أمام ظاهرة القتل لأجل السلطة، ومن ثم نحن نشهد نوعًا أكثرَ توحّشًا من سياسة الجثث (Necropolitics) نسميها نيكروسياسة البراميل (Necropolitics of Barrels)، وهذا التعديل ضروري في مصطلح مبيبي لإمكانية استخدامه عربيًا بعد 2011 بصورة أكثر دقّة. ولذلك يمكن أن نفترض أن إضافة “البرميل” (بوصفه اصطلاحًا يدلّ على ظاهرة) إلى مفهوم النيكروبوليتكس، تُعطي للأخير إمكاناً أكثر دقة للاستخدام العربي الراهن.
ويمكن أن نتحدّث عن ظاهرة كاملة نسمّيها “البرميل”، ومنها بطبيعة الحال نشتقّ “البرملة”.
ولا تتوقف هذه الظاهرة عند برميل النظام السوري المُتفجر، بل امتدّت إلى المنطقة العربي كلها. وتعني البرملة بوصفها ظاهرة أن يقتل القوي أيَّ أحدٍ، من دون تحديد أو تعيين أو تسديد، لا لشيءٍ إلا ليقتل إثباتًا لوجوده بالقوة.
مثالٌ واضح لهذا النوع من القتل الذي نتج من شعار “الأسد أو نحرق البلد” الذي أطلقته قوات الأسد في بدايات الحراك الشعبي ضد النظام عام 2011؛ والذي بموجبه جرى قتل سوريين بعشوائية؛ فالبرميل أداةٌ طوَّرها النظام لكي يحترق البلد ليس أكثر.
وتقوم البرملة بوصفها ظاهرة على قتل أكباشِ فداءٍ، لا يهم تحديدهم أو معرفة مواقفهم السياسية أو لا يعني القاتل من هم، بل المهم أن يكون قتلهم رسالة إلى الأحياء الذين ظلوا أحياءً بالمصادفة ليس إلا. لذلك يمكن القول إن الأنظمة العربية السياسية الجديدة المُبرملة، أو التي تتبرمل، تقسم البشر إلى مجموعتين: أكباش فداءٍ، وناجون مصادفةً.
تعريب النظام السوري من بوابة الجامعة يعني بالضرورة بَرملَة الحاكم العربي الأخير
وإذا كانت النيكروبوليتكس تحدّد من يحيى ومن يموت؛ فإن “نيكروبوليتكس البراميل” تحدّد عدد الذين سيحيون، وعدد الذين سيموتون، كل يومٍ، ومن دون أي اهتمامٍ بالـ “من”.
وقد قام النظام السوري بهذا التحديد بصورة حَرفية، في بداية قمعه التظاهرات السلمية ضده في عام 2011، حيث كان يُحدِّد مسبقًا متوسّط عدد المتظاهرين الذي سيقتلهم. وإذا سلَّمنا أن البرملة ظاهرة، فإن الخوف من انتشارها أكبرُ من الخوف منها.
ويجد هذا الخوف مبرّراته في محاولات إعادة القيمة لصاحب المِلكية الفكرية لاختراع البرميل من بوابة جامعة الدول العربية، الأمر الذي يعني أن الأنظمة العربية التي لا يزال يعمل فيها مصطلح مبيمبي من دون تعديل قد طوّرت ميولًا لتجربة البرميل، بوصفها أكثر ضمانًا للاحتفاظ بكرسيّ الحكم. وفي سبيل ذلك، تحتاج رخصة من النظام السوري مالك حقوق البرميل الفكرية.
ولذلك، تعريب النظام السوري من بوابة الجامعة يعني بالضرورة بَرملَة الحاكم العربي الأخير، ومن ثم تدشين عصرٍ جديدٍ هو النيكروسياسية البرميلية في المنطقة العربية.
وبذلك تكون البرملة الصيغة المنحطَّة الأخيرة لآلة الحرب، وهي آخر ما وصل إليه الحاكم الهووي الأخير، وآخر السرديات التي تقدّمها إلينا الدولة السلطانية المعاصرة التي تعمل باسم الهوية المقدّسة التي “تخلقها الواقعة الوطنية المزيفة”.
ومع هذه التوجهات الكارثية كلها، تحوّلت جامعة الدول العربية من واقعة مثيرة للضحك مع القذافي وأصدقائه، إلى واقعةٍ مثيرةٍ للخوف.
ولكن، ثمّة شيء من الإيجابية قد نصل إليه بالتفكير بطريقة دولوز وغاتاري؛ فإذا اتفقنا مع طرحهما في كتابهما المشترك “ألف هضبة”، بأن تمام الدولة الشمولية يكون بصورة دولة انتحارية؛ فذلك يقودنا إلى افتراض أن تعريب الأسد، أو بَرملة العرب، هي أداة انتحارٍ اختارها الحاكم العربي لذاته من دونٍ وعيٍ منه. وبطبيعة الحال، ليس الانتحار بحد ذاته هو الإيجابي، لكن الأفق الذي يتركه مثل هذا الانتحار أمام الشعوب العربية في المنطقة لتعيش حياةٍ أفضل، أو لتعيش فحسب، من دون موضوع الحياة الأفضل أو الأسوأ، فهذا الأخير يصير ترفًا أمام حرمان “نيكروسياسة البراميل” الإنسانَ العربي من الحقّ الأساسي في الحياة، وهذا أضعف الإيمان.