صبا مدور /المدن
من غير المقبول اعتبار الحراك الحالي في السويداء مجرد احتجاجات على الوضع الاقتصادي والمعيشي، فذلك سيكون في أحسن الأحوال مدفوعاً بسوء الفهم وقصر النظر وغياب الرؤية وضعف المعلومات، والحقيقة أن ما يجري في السويداء هو رغبة كانت مؤجلة من قبل أهلها لترتيب مصير هذه المنطقة الحساسة وشديدة الأهمية، لأسباب عدة من بينها القضاء على مظاهر الفساد وعنف الدولة وتغول الشبيحة واتخاذ المدينة معبراً أساسياً لتهريب المخدرات، فضلا عن إحساس خاص من قبل أهالي السويداء بقرب دنو أجل النظام.
هذا الحراك، ليس درزيا فقط، وإن كان غالبية أهالي السويداء منهم، ففيهم مسيحيون من السكان ومسلمون من القبائل القاطنة في المحافظة، وجميعهم يحملون مطالب مشتركة، تتمثل بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 ورحيل النظام وإطلاق سراح المعتقلين وتحرير سوريا من الاحتلالات المختلفة، وهذه جميعا هي مطالب السوريين جميعا، ومطالب الثورة من الأساس، ومن هنا فإن استعادة طرحها في هذا الوقت، حيث بدا أن النظام (ينتصر) هو كسر مباشر لسردية غلبة النظام، وفشل الثورة، واستعادة شديدة الأهمية في وقت حاسم، لفكرة الثورة واسقاط النظام.
وربما نجد من يقدح بالسوريين الدروز لانهم لم يشاركوا بالثورة، ويدعي أنه عرف عنهم تأييد النظام أو عدم معارضته على الأقل، والحقيقة أن هذا هو أيضا فهم قاصر وربما يستند أحيانا إلى مرجعيات أيديولوجية كانت جوهر انتكاسات الثورة منذ البداية، فقد كان للسويداء حضور مهم في بدايات الثورة كان يمكن أن يكبر ويكون له شأنه المهم، وما حركة (رجال الكرامة) والشيخ وليد البلعوس الذي اغتاله النظام، غير تعبير واحد عن المشاركة المبكرة للسويداء ورجالها في مواجهة النظام، لكن المتطرفين الذي سعوا لاحتكار الثورة وأفسدوا عليها صورتها وشكلها المدني المتحضر والمبدئي، قاموا أيضا بمعاداة ثورة السويداء والتعامل مع أهلها بشكل بائس أجبرهم على الانكفاء واختيار مقاربات تحميهم من التطرف والإرهاب.
اليوم، بعد انكفاء التنظيمات المتطرفة من الجنوب، يعود المشهد السوري إلى إعادة التشكل، فتستعيد السويداء رغبتها المؤجلة، يعينها في ذلك، رأي عام ناقم ودعم من زعاماتها الدينية التقليدية، وجميعهم تعززت لديهم القناعة بان نظام الأسد لا فائدة منه، وأنه ما زال يكرر نفس العبث وسوء الإدارة والتعالي على الشعب، والقمع والارتهان وحماقات الركون إلى وهم القوة.
وحراك السويداء أكثر بكثير من مجرد انضمام مدينة جديدة للثورة أو معارضة النظام، فهذه المحافظة ذات سمات خاصة جدا، سواء لجهة سكانها من الغالبية الدرزية، أو لموقعها الجغرافي على الحدود مع الأردن، أو للسياق الداخلي والإقليمي والدولي الذي اكسب الحراك أهمية خطيرة لجهة التداعيات المحتملة على صعيد مجمل الترتيبات الميدانية في تلك المنطقة.
تقع السويداء في قلب الحدث السوري الراهن، فهي المحافظة الحدودية مع الأردن، ومنها يقوم النظام والميليشيات الإيرانية بتهريب الكبتاغون الى عموم منطقة الخليج، وضياع هذا المنفذ سيفقد النظام مصدرا جوهريا من مصادر ابتزاز دول الخليج ماليا وسياسيا، فضلا عن توفير موردا أساسيا له، والسويداء وهي تجاور درعا مهد الثورة، ومركز معارضة النظام، وتنفتح شرقا على بادية الشام، التي تصل بها إلى نقطة الحدود العراقية الأردنية وقاعدة التنف التي تشكل الآن مركز احداث وتطورات مهمة بقيادة أميركية.
هذا الموقع الجغرافي يمنح حراك السويداء تداعيات مباشرة بالنظر لسياق الأحداث الراهنة حولها، ومنها الدور الذي يمكن للمدينة أن تقوم به في بناء حاجز صد أمام الميلشيات الإيرانية ووقف استخدامها تهريب المخدرات، وبالطبع فالأهم أن المدينة يمكن أن يكون لها أثر مهم للغاية في تداعي النظام، وتعاظم مأزقه، فهو يدرك أن مواجهة حراك السويداء بالعنف سيكون مكلفا جدا له، وسيكون أكثر من مجرد خط أحمر يمكن للمجتمع الدولي التغاضي عنه.
ولأن النظام يعاني من مأزق المقاربات الممكنة، فإنه لجأ إلى تقزيم الحراك، من خلال ربطه بأهداف (انفصال) درزية، وتحويله من احتجاج ضد النظام، ومطالبة برحيله، إلى (تمرد) أقلوي لتقسيم سوريا، وتعميم مثل هذا المنطق من خلال الشبيحة والمرتبطين بالنظام، لغرض تبرير اللجوء إلى العنف، من أجل (منع التقسيم)، ولسوء الحظ، فإن هناك من بين مؤيدي الثورة من يمكن أن تمر عليه مثل هذه السردية الكاذبة، وربما يقوم بترويجها، ليقوم من حيث لا يدري بخدمة النظام، وتعميم اطروحته.
وحتى الآن، لا يبدو ان النظام يمكن أن يمضي نحو قمع حراك السويداء، لأن ذلك سيكون انتحاراً حقيقياً له، ومع فشل سردية (الانفصال) بعد الشعارات الوطنية العامة للحراك، فإنه يمكن أن يمضي نحو مقاربة جديدة أكثر خطورة، وهي تسليط الإرهاب نحو الحراك، سواء ليقوم بضربه منطلقا من التطرف ضد السكان، أو الادعاء باختراق داعش للسويداء كي يقوم بضرب الجميع بدعوى محاربة الجميع.
هذه المقاربة هي سلوك نمطي استخدمه النظام من قبل، ويمكن أن يستخدمه من جديد، وضمن هذا السياق يمكن وضع الانباء المتعلقة بهروب عناصر من داعش، أو إطلاق شائعة دخول انتحاريين إلى السويداء، من قبل أحد شبيحة النظام المعروفين.
وفي كل الحالات تفرض هذه الاحداث المتوالية القيام بجهد حقيقي وتفصيلي لإحباط هذا المخطط، وبناء تنسيق واسع بين حراك السويداء وبقية مناطق الثوار وقياداتها، فضلا عن تحويل الحراك إلى جهد سياسي ضاغط ومؤثر، ضمن سياق متوتر وشديد الهشاشة.