د. مناف الحمد
بعيدًا عن الجدل الذي لم يصل إلى منتهاه حول حقيقة النسب القبلي من زيفه، فإن للقبيلة وجودًا راسخًا في العالم العربي كله، على تفاوت في كثافة هذا الوجود بين بلد وآخر، وبين منطقة وأخرى.
وهذا الوجود بثقله، وبأبعاده، ومستوياته هو ما يهمّ في مقاربة واقع القبيلة. في شرق سورية، ثمة حضور طاغٍ للمكون القبلي، وهو يتخذ أشكالًا مختلفة بين مدن المحافظة وأريافها، حيث تخفّ حدة الطابع القبلي في مدن المحافظة عنه في أريافها، وإن كان هذا الاختلاف، بدوره، قد تجلى بأشكال مختلفة عبر الأزمنة المختلفة.
كان حكم البعث، وخصوصًا بعد ما سمي بـ “الحركة التصحيحية” قد أمعن في استخراج أسوأ قابليات المكون القبلي، فقايض ولاء الرموز القبلية بمكتسبات شخصية، وعمد إلى تكريس صورة نمطية مشوهة في أذهان السوريين عن المحافظة عمومًا، وقبائلها بشكل خاص، كما فاقم الاستقطاب الحضري – الريفي عبر سياسات أفرزتها السياسة الأم المتبعة في عموم سورية، وهي سياسة ترييف المدن.
من حقائق التاريخ أن نظام الأسد قد أهمل منطقة شرق سورية، وحرم أهلها من ثروات أرضهم، ودفع بكثير من شبابها إلى البحث عن رزقهم خارج الحدود.
عندما قامت الثورة السورية عام 2011 ظن النظام أن تدجينه للمنطقة قائم، وان شغبًا عليه من جهتها لن يحصل، مستخدمًا ما يسمى في علم النفس السياسي بـ “آلية التناظر” التي يسقط مستخدمها عبرها تجارب الماضي على ما سيحدث، مفترضًا أنه سيكون مناظرًا له، من دون الأخذ في الحسبان تغير السياقات واختلاف الظروف.
ولم ينطبق حساب الحقل على حساب البيدر؛ لأن الجيل الجديد الذي انفتحت آفاقه على عوالم جديدة خارج أرضه، بات يعقد المقارنات بين موطنه الذي لا يجد فيه ما يقيم اوده، رغم كل ما فيه من ثروات، وبين البلاد التي يعمل فيها، والتي يرفل مواطنوها في نعيم الحياة المستقرة الرخية. وهو جيل تفتق وعيه بالعلم، بعد أن كادت نسبة المتعلمين في مناطق القبائل في ريف دير الزور في العقود الأخيرة قبل الثورة تضاهي نسب المتعلمين في أكثر أرياف سوريًا تحضرًا.
المهم أن سلوك النظام تجاه مشاركة أبناء شرق سورية ضده كشف عن نقمة ذات لون خاص، حيث اشتغل على قلب الأرض، وإعادة حرثها من جديد، فلم يكتف بعنفه المعهود، وإنما ساهم، مع فاعلين آخرين، في جعل تلك المناطق حقلًا لتجارب قوى مختلفة، قبل أن تعقد قوات التحالف الدولي اتفاقها مع قوات قسد التي يقودها أكراد مسيسون، مؤدلجون لفرض سيطرتها على منطقة الجزيرة في ريف دير الزور.
ومما يلفت النظر أن منطقة القبائل على الرغم من كل محاولات العبث بها من طرف جهات مختلفة كانت منطقة طاردة للتطرف الداعشي على عكس ما روّج النظام، وحلفاؤه، وبعض المتخرصين، فقد كانت نسبة وجود الدواعش في تلك المنطقة من أقل النسب؛ وكانت درجة تمكنهم من اختراق النسيج الاجتماعي فيها من أقل الدرجات. وليست الإشارة إلى هذا من باب التقريظ، وإنما من باب التنبيه على ضرورة سبر غور الأسباب التي يأتي في مقدمتها التنازع على الثروة المستخرجة من آبار النفط، واحتكار داعش كيفية استغلالها.
ويأتي -كسبب ثانٍ- عدم تجذر التدين بشكله السلفي الصرف في مناطق القبائل الريفية ما خلا بعض القرى والبلدات التي وفد إليها هذا الفكر من أبنائها العاملين في الخليج، والمتبنين المنهج السلفي في العقيدة والسلوك.
بعد سيطرة قسد، وهي سيطرة مكوّنها الماهوي هو القسر، لا اكتساب الشرعية عبر الأداء والإنجاز، وبعد ما مارسته من عنصرية تجاه أبناء القبائل من العرب، وما أكدته تقارير كثيرة من استغلال قسد بالغ السوء للثروة النفطية فيما يصب في مصلحتها لا في مصلحة تنمية المنطقة، وتلبية احتياجات أهلها، بدت بديلًا أكثر سوءًا من داعش، وكان الانتفاض ضدها يحتاج إلى شرارة لكي ينفجر. وهو ما حدث بعد اعتقال أحمد الخبيل رئيس المجلس العسكري التابع لقسد.تباينت التحليلات حول الدافع خلف انتفاضة العشائر، وقد أسرف بعضها في مجانبة الوقائع، كما ذهب بعضها بعيدًا في تبني نظرية المؤامرة.
وكان واضحًا في بعض التحليلات عدم التعويل على أبناء القبائل في إحداث أي تغيير يصبّ في مصلحة القضية السورية، بما تعنيه من قضية بحث عن وطن حر ديمقراطي، وذلك لما رسخ عنهم في أذهان الكثيرين من صورة نمطية تبخيسية غير حقيقية.وكالعادة ظهر بعض بقايا الأحزاب التقليدية ليحذروا من المكون القبلي الموسوم بـ “المتخلف”، والذي قد يحرف الثورة السورية عن مسارها. ك
انت ثنائية التقدم- التخلف قد فرضت فرضًا على العقل الجمعي العربي؛ بسبب واقع تصديرها من الطرف الغربي الغالب والمهيمن، وأصبحت تحليلات كثير من المقلدين والأدعياء تتحرك على حدود الشرطة الصغيرة الفاصلة بين المفردتين في ثنائية: التقدم- التخلف.
لا شك أن البنية القبلية بنية قبل وطنية، كما هو حال البنية الطائفية، ولكن التهليل لما يجري في السويداء، وهو محق وضروري بدا مفارقًا لدى البعض في ريبتهم من انتفاضة القبائل في شرق سورية. وهو ما يمكن أن يبرر -عند من يقعون في هذه المفارقة- في سلمية الحراك في السويداء، وفي الشكل العنفي الذي اتخذته الانتفاضة في مواجهة القبائل مع قسد
. وهو تبرير لا أساس له؛ لأن السياقين مختلفان جدًا، والقياس بينهما يقع في مغالطة القياس مع الفارق، ولكن على فرض غضّ النظر عن هذا التبرير، فإن ثمة مسكوتًا عنه في هذه المفارقة هو التصنيف النهائي المستورد بدون تمحيص للواقعين في خانة التقدم، وهم أبناء الأقليات، والواقعين في خانة التخلف، وهم أبناء القبائل تحديدًا من الأكثرية.
وهو تصنيف عدا عن أنه مستورد من طرف مقلدين، فهو مغرق في سطحيته؛ لأن المعايير التي يقوم عليها تشبه معايير أي جاهل في تصنيفاته لمواد حاجاته الاستهلاكية.إن ما جرى في منطقة القبائل انتفاضة ضد سلطة غاشمة، وهي انتفاضة طبيعية بكل ما تنطوي عليه من عيوب، وأخطاء، وانقسامات، وينبغي النظر إليها على أنها جزء من السعي السوري نحو الحرية التي توالدت على الأرض السورية سلالة أعدائها، وكانت قسد من ضمن هذ السلالة، ولذلك فإن المطالبة بإخراجها من أرض سورية مطلب في صميم هذا السعي.نعم، لا بد من خطاب سياسي وطني يربط بين انتفاضة أبناء الجبل الأشم في السويداء، وانتفاضة أبناء القبائل في شرق سورية، ويكون خطابًا صانعًا للأحداث بقدر ما يكون مشتقًا منها. ولكن عدم وجوده يحرض على ضرورة صياغته، لا على التذرع بعدم وجوده لإنكار مطالب انتفاضة القبائل المحقة.
وليس السؤال عن بديل قسد سؤالًا منطقيًا إذا أحسنا الظن، وليس سؤالًا خاليًا من الشبهة إذا أسأناه، فإن في مجتمع القبائل ما يصلح أن يكون بديلًا، وإذا لم يكن قد تبلور إلى الآن، فإن من طبيعة الثورات أن تخلق بدائلها عبر مخاضها، وليس قبله.
إن ما يجري فرصة تاريخية لتحرير أرض سورية من إحدى قوى الاحتلال، وإن من واجبنا البناء عليها، وعدم إغراقها بتحليلات تفقدها جوهرها كمقاومة ضد الاحتلال، وعدم محاولة قسرها على التقولب وفق شعارات لأدعياء متغربين، أو موهومين مضللين، أو مؤدلجين مشبوهين.