العقيد عبد الجبار عكيدي
ما إن تقدمت قوات النظام وسيطرت على أطراف مدينة حلب من جهة الشرق والشمال الشرقي، حتى انطلقت المعركة الفاصلة مع داعش في مدينة حلب وريفها الغربي وذلك في الثاني من شهر كانون الثاني 2014، وتشكل في نفس اليوم جيش المجاهدين من أجل تلك المعركة التي توسعت لتشمل الريف الجنوبي والشرقي وأرياف إدلب وجبل الزاوية، ودارت معارك شرسة جداً استمرت في مدينة حلب ما يقارب الأسبوعين، تمكنت فصائل الجيش الحر التي شاركت أغلبها في تلك المعركة باستثناء كتائب أبو عمارة وجبهة النصرة وحركة أحرار الشام، من كسر شوكة التنظيم ودحره من المدينة.
لم تكد الفصائل تلتقط أنفاسها وتدفن شهداءها حتى استفاقوا على وصول قوات النظام إلى أطراف المدينة، مستغلة انشغال الجيش الحر في معركة كسر العظم مع داعش، فاستنفرت كافة الفصائل دون استثناء وحشدت مقاتليها للذود عن الأرض والعرض متحاملين على الجراح والتعب وكثرة الجبهات والأعداء وقلة الذخيرة والسلاح والعتاد، وبعد معركة حامية الوطيس تمكن المقاتلون من طرد قوات النظام من المناطق التي وصلت إليها في مناطق عزيزة وحي المرجة ومضافة بيت بري على أوتوستراد المطار وحي الميسر وكروم بيت بري وكرم الطراب، وإرجاعها من حيث أتت بالقرب من مطار النيرب العسكري، لتبدأ ما سُمي آنذاك (حملة البراميل)، التي شنها النظام بشكل هستيري على مدينة حلب، في حالة انتقام جنوني من صمود أهلها ودحرهم للنظام والتنظيم، دمر خلالها أجزاء كبيرة من الأحياء المحررة وهجّر أكثر من مليون مواطن من ساكنيها في تلك الفترة.
عندما تيقن النظام من استحالة التقدم على أحياء المدينة بعد أن واجه مقاومة عنيفة من مقاتلي الجيش الحر الذين تمرسوا في قتال المدن والشوارع وأصبح لديهم خبرة كبيرة في هكذا نوع من القتال، غيّر خطته باقتحام المناطق المجاورة والمحيطة بالمدينة لضرب طوق عليها وحصارها، فدارت معارك ضارية في منطقة الشيخ نجار والمنطقة الصناعية والمياسات والمجبل والمقالع شاركت فيها فصائل حلب وفصائل الريف بالإضافة إلى مشاركة فصائل الجيش الحر من محافظة إدلب، استخدمت قوات النظام فيها كل أنواع الأسلحة بما فيها المحرمة دولياً من القنابل الفوسفورية والعنقودية والصواريخ الارتجاجية وغاز الكلور، وامتدت المعركة لعدة أشهر تمكنت قوات النظام من السيطرة على الشيخ نجار والمنطقة الصناعية وفي شهر أيار عام 2014 وصلت طلائع قواته إلى سجن حلب المركزي وفكت الحصار عنه.
اتجه رتل النظام شمالاً وبعد معارك كثيرة خاضها الثوار في مواجهة قوات النظام المدججة بأحدث أنواع الأسلحة تمكنت قواته من السيطرة على قرية سيفات القريبة من السجن وقرية حندارات وكتيبة الصواريخ في حندارات والمبنى الأبيض الملحق بالسجن ومعمل الزجاج والمنطقة الحرة وسجن الأحداث وتلة المضافة، ليتقدم بعدها منفذاً المرحلة الثانية من خطته بالسيطرة على قرية باشكوي والوصول إلى المفرق الرباعي قاطعاً الطريق بين الريف الشمالي ومدينة حلب المحاذي لمشفى الكندي، وبذلك يكون الطريق الثاني المؤدي إلى المدينة قد قُطع، بعد طريق حلب – نقارين – الباب، وبدأ الخناق يضيق أكثر على المدينة.
استمرت معارك الكر والفر بين فصائل الثورة واستعادوا بعض المناطق من قوات النظام وكبدوهم خسائر كبيرة، إلى أن تمكن رتل دبيب النمل الذي يضم إلى جانب قوات النظام المئات من عناصر الميليشيات الإيرانية وعناصر حزب الله اللبناني، في بداية شهر شباط عام 2015 من التسلل عبر الأراضي الزراعية مستغلاً حالة الضباب الكثيف واقتحام بلدات رتيان وحردتنين وباشكوي، وباغتوا المدنيين وهم نيام ليرتكبوا أفظع المجازر والمذابح بحق النساء والأطفال والشيوخ، وكان الهدف الوصول إلى بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين وفك الحصار عنهما.هبت الجموع من أبناء الريف الشمالي مدنيين وعسكريين وكل من يستطيع حمل السلاح في ظاهرة هي الأروع، جسدت روح الحمية والنخوة والشجاعة والإقدام حتى من رجال مسنين، ملبيين نداء الفزعة لأهالي تلك البلدات، فدارت معركة ربما هي الأكبر والأعنف وتمكن الثوار وأصحاب الأرض من دحر القوات الغازية بعد أن قتلوا منهم ما يزيد عن 500 عنصر وطردهم من بلدتي رتيان وحردتنين، فيما تحصن ما تبقى من القوات المهاجمة في قرية باشكوي، وبذلك يكون قد انتهى رتل دبيب النمل المتوجه إلى الريف الشمالي بعد مقتل قائده اللبناني “كميت” الذي ما زالت جثته بحوزة الثوار حتى يومنا هذا وأغلب عناصره.في هذه الفترة وفي شهر نيسان من نفس العام تشكلت غرفة عمليات “فتح حلب” التي ضمت أغلب فصائل حلب العسكرية وبدأت العمليات العسكرية الهجومية لطرد قوات النظام واستعادة المناطق التي وصلت إليها، ودارت معارك طاحنة في جمعية الزهراء ومعارك اقتحام المخابرات الجوية، بالتزامن مع معارك كبيرة شملت أغلب المحافظات السورية كان من أهمها تشكيل “جيش الفتح” وتحرير مدن إدلب وأريحا وجسر الشغور، وكذلك انطلقت معارك في درعا والساحل، ومعركة “الله غالب” التي أعلنها “جيش الإسلام” وفصائل الغوطة الشرقية للسيطرة على الطريق الدولي دمشق – حمص – حلب، وتضييق الخناق على النظام الذي وصل في تلك الفترة إلى أسوأ حالاته وكان على وشك الانهيار هو والميليشيات الإيرانية وحزب الله المساندون له، لولا التدخل الروسي المباشر في نهاية شهر أيلول 2015.
لربما من حق الناس أن تتساءل كيف لمدينة بحجم حلب أن تتحاصر وتسقط وفيها الآلاف من المقاتلين وخطوط إمدادها باتجاه الريف وتركيا مفتوحة، في حين أن مدينة داريا التي هي بحجم حي من أحيائها، ومحاصرة من كل الجهات من أقوى التشكيلات العسكرية في جيش النظام وهي الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة وسرايا الصراع ومطار المزة العسكري، ومع ذلك صمدت ثلاث سنوات في مواجهة كل تلك القوى العسكرية، نعم إنه سؤال محق ومشروع، ولكن إذا عرفنا كل حيثيات ما جرى في حلب وهنا لا أبرر الأخطاء التي وقع بها قادة الفصائل والثوار، ولا أقدم لهم الأعذار لتبرئتهم من المسؤولية، مع العلم أنني لم أكن في موقع المسؤولية والقيادة حينها، ولم أكن موجوداً في حلب حين حصارها وسقوطها، ولكن ومن باب الأمانة التاريخية أسرد هنا بعض الحقائق والوقائع التي عاصرت واطلعت عليها.
في مدينة داريا وأغلب المدن المنتفضة في وجه النظام كانوا يقاتلون عدواً واحداً هو النظام وحلفاؤه من الميليشيات الطائفية الإيرانية وحزب الله، وبعض المدن كان هناك عدو آخر هو تنظيم داعش الذي لم يكن أقل شراسة وغدراً من قوات النظام وخاصة في محافظتي دير الزور والرقة، إلا أن ثوار حلب وفي توقيت متزامن خاضوا حروباً شرسة مع أربعة أعداء في آن واحد هم النظام وأعوانه وتنظيمات داعش و \ب ي د- ب ك ك\ بالإضافة الى جبهة النصرة، ففي حين كانت الفصائل الثورية تخوض أعنف المعارك وأشرسها على جبهات حلب المدينة والريف الجنوبي والشمالي والمخابرات الجوية والراشدين وغرب الزهراء وحندارات وسيفات والملاح والكثير من الجبهات، قامت جبهة النصرة وقبل معركة رتيان الأولى بأيام قليلة بالانقضاض على “حركة حزم” والاستيلاء على سلاحها وعتادها وتشريد مقاتليها، “حزم” التي كانت تشكل درعاً قوياً في مواجهة النظام في جبهات حندارات والكاستلو المشتعلة، ويشهد كل ثوار حلب لمقاتليها وكفاءتهم القتالية حيث كان أغلب قادتها من الضباط المنشقين أصحاب الاختصاص الذين كانوا بالمرصاد لدبابات النظام من نوع ت72 ولا يكاد يمر يوم إلا ويدمرون منها واحدة أو اثنتين، لامتلاكهم صواريخ نوعية مضادة للدروع نوع “تاو” التي زودتهم بها الولايات المتحدة الأميركية، فكانت خسارة جبهات حلب كبيرة جداً بخروج فصيل قوي ومهم من الساحة ما شكل فراغاً كبيراً وزاد العبء الملقى على عاتق بقية الفصائل المنهكة أصلاً من الرباط والمؤازرات في مواجهة الأعداء الأربعة في آن واحد. في المقال القادم سأتحدث عن حالة الانسجام الكبيرة بين قوات النظام والميليشيات الإيرانية المساندة لها وحزب الله والمحتل الروسي مع تنظيم داعش في قتال فصائل الثورة والغدر بها في توقيت متزامن وعلى أغلب جبهات القتال