الدكتور نائل جرجس
تنظر من حيث المبدأ المحاكم الوطنية في أي دولة بالقضايا الداخلة في اختصاصاها المكاني، كما في حال اقتراف الجريمة المنظور بها على أراضي هذه الدولة، وقد ينعقد في بعض الحالات اختصاصها الشخصي عندما يكون المشتبه به أو الضحية من مواطني هذه الدولة. أمّا الاختصاص الدولي، الذي يُحاكم بمقتضاه ضابط الأمن السوري السابق أنور رسلان أمام القضاء الألماني، فيُتيح النظر في قضايا تتجاوز حدود الاختصاصين المكاني والشخصي، وذلك نظراً لخطورة الجرائم المقترفة التي تصنّف غالباً بجرائم الحرب أو ضدّ الإنسانية. فيخوّل هذا النوع من الاختصاص، الذي يطلق عليه أيضاً الولاية القضائية العالمية، المحاكم الوطنية في دولة ما بملاحقة مرتكبي الجرائم المذكورة على الرغم من اقترافها خارج أراضي الدولة المعنية وعدم تبعية المتهمين أو الضحايا لجنسية هذه الدولة.ينبع الأساس القانوني للاختصاص الدولي بشكل أساسي من الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي، وخاصة الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، على الدول الأطراف بملاحقة المشتبه بهم باقتراف جرائم خطيرة والمعروفة أيضاً بالجرائم الدولية. فتنصّ اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية على التزام الدول الأطراف بملاحقة المشتبه بارتكابهم انتهاكات لهذه الاتفاقيات، كما تفرض المادة الخامسة من اتفاقية مناهضة التعذيب على الدول الأطراف إقامة ولايتها القضائية على جرائم التعذيب وذلك بملاحقة مرتكبي هذه الجرائم عند دخولهم أراضيها، والحال كذلك بمقتضى اتقاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، و نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي يذكر بأنّه “من واجب كل دولة أن تمارس ولايتها القضائية الجنائية على أولئك المسئولين عن ارتكاب جرائم دولية”. ويعدّ الاختصاص الدولي مكملاً للاختصاص الوطني، فينعقد فقط عندما تعجز أو ترفض محاكم الدولة المعنية التي اقترفت الجرائم على أراضيها من ملاحقة الفاعلين نظراً لعدم استقلالية القضاء أو غياب الإرادة السياسية أو بسبب تعرّض الضحايا وعائلاتهم لإجراءات انتقامية في حال تحريك الدعوى.بدأت حديثاً العديد من الدول الأوربية بتعديل تشريعاتها واستصدار أخرى لتيسير ممارسة الاختصاص الدولي ومحاكمة المشتبه بهم. فقد كانت الدول الأوروبية خلال القرن الماضي ملاذا آمنا لمرتكبي الجرائم الدولية وخاصة من المسؤولين والديكتاتوريين السابقين للعديد من الدول الاستبدادية الذين أذاقوا شعوبهم الويلات قبل أن يلجؤوا إليها بثروات طائلة، هذا بالإضافة إلى زياراتهم المتكررة دون أية ملاحقات قضائية. غير أنّ العقود الأخيرة قد شهدت ملاحقات كثيرة منها توقيف الديكتاتور التشيلي السابق أوغستو بينوشيه الذي تمّ اعتقاله في لندن في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1998، والحكم الصادر بالسجن لمدة 8 سنوات من محكمة جنايات الراين في فرنسا على النائب السابق للقنصل التونسي في مدينة ستراسبورغ وذلك لتورطه بأعمال تعذيب في تونس (قرار جنائي رقم 08/36، 15 ديسمبر/كانون الأول 2008)، فضلاً عن مذكرات التوقيف التي أصدرها القضاء الفرنسي عام 2018 بحق ضباط أمن سوريين منهم علي مملوك لاتهامه بالمسؤولية عن ارتكاب عمليات تعذيب واخفاء قسري، وتوقيف واتهام مجدي نعمة (المعروف بأسم اسلام علوش) أحد القياديين السابقين “لجيش الإسلام” خلال العام الجاري.أمّا القانون الألماني، فيمكّن محاكمه من عقد الاختصاص الدولي بمقتضى “قانون الجرائم ضد القانون الدولي” (Völkerstrafgesetzbuch – VStGB) لعام 2002، والذي أدرجَ بشكل رئيسي متطلبات نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وبالتالي، يمكن تحريك الدعاوى بحق المشتبه بارتكابهم لجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب في هذا البلد، حتى في حال عدم صلة هذه الجرائم بألمانيا واقترافها في الخارج، كما يُشير إليه صراحة “قانون الجرائم ضد القانون الدولي”. في هذا الإطار، باشرت المحكمة العليا بمدينة كوبلنتس الألمانية بمحاكمة أنور رسلان الذي ترأّس التحقيقات في الفرع 251 (فرع أمن الخطيب في دمشق) التابع للمخابرات السورية، وذلك بين نيسان/ أبريل 2011 وأيلول/سبتمبر 2012 قبل مغادرته سوريا وتقديم طلب اللجوء في ألمانيا. وقد وجّه الادعاء العام الألماني لرسلان تهماً مرتبطةً بالقتل والتعذيب الممنهج والاعتداءات الجنسية، وهي انتهاكات ترقى لمستوى جرائم ضدّ الانسانية.بالتأكيد تبقى هذه المحاكمات الفردية لمتورطين بانتهاكات واسعة النطاق قاصرة عن تحقيق العدالة الشاملة في بلدان تورّط فيها الآلاف بجرائم دولية مثل سوريا، غير أنّ أهميتها تأتي بشكل أساسي من مكافحة ثقافة الإفلات من العقاب حول العالم ولتوصل رسالة لمن يعتقد بأنّ ثرواته الطائلة المنهوبة والمودعة في البنوك الأوروبية ستتيح له العيش بمنأى عن العقاب، فضلاً عن التعويض المعنوي للضحايا السوريين. إنّ هذه المؤشرات القانونية في ملاحقة المجرمين الخطرين في أوروبا سيكون لها أكبر الأثر في الحدّ من ارتكاب الجرائم الدولية ومحاكمة المسؤولين عنها. مع ذلك لا بدّ من الإشارة إلى العديد من الصعوبات في إطار هذه الملاحقات، فتشترط أغلب الدول الأوروبية لممارسة الاختصاص الدولي ضرورة وجود المشتبه بهم والضحايا أو ممثليهم أمام القضاء المعني، فضلاً عن الضغوط السياسية الكبيرة التي تمارسها بعض الدول من أجل تجنيب محاكمة رعاياها، بالإضافة إلى استخدام مبدأ الحصانة الدبلوماسية فيما اذا كان المتهمين من ممثلي الدول الاستبدادية في السلك الدبلوماسي، كما في حالة سامر بريدي الذي ترأس سابقاً فرع أمن الدولة في غوطة دمشق وقدمَ إلى سويسرا كممثل لوفد النظام السوري في مفاوضات جنيف.