• الأربعاء , 27 نوفمبر 2024

من سوريا الى ليبيا الى اليمن، مسألة “الشرعية” مطروحة

من سوريا الى ليبيا الى اليمن، مسألة “الشرعية” مطروحة. بحثت عنها مصر وتركيا للتعاطي مع الشأن الليبي. دعا البطريرك اللبناني الى “فكّ الحصار” عنها، لأن “حزب الله” يوظّفها لمصلحة إيران. أثارها رئيس تونس لأن زعيم “النهضة” ينازعه على صلاحياته. مقالي الأسبوعي… لمن يرغب”شرعيّات” عربية تائهة… ودولٌ تقاوم التفكّكعبدالوهاب بدرخانمع احتدام الصراع السياسي في تونس، قال الرئيس قيس سعيّد أخيراً أن الوقت حان لمراجعة “الشرعية” التي وزّعها الدستور بين الرئيس ومجلس النواب والحكومة. ما دفعه الى هذا الموقف أن تنازع الصلاحيات بات يخلط الأدوار، وأن الموزاييك السياسي في البرلمان يعرقل ادارة العجلة الحكومية. ويبدو أن تسلّم راشد الغنوشي رئاسة البرلمان ضاعف الإشكال حول “الشرعية”، إذ يحاول زعيم حركة “النهضة” الإسلامية احتواء الرئاسة وتجاوزها، ليس فقط في السياسات الداخلية بل أيضاً في السياسة الخارجية، كما ظهر في انحيازه الى حكومة “الوفاق” الليبية في طرابلس باعتبار أن جماعات إسلامية قريبة من “النهضة” بخطّها “الاخواني” هي التي تسيطر على تلك الحكومة.وأواخر حزيران (يونيو) الماضي لفت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بإعلانه أن المصدر الوحيد لـ “الشرعية” في ليبيا هو مجلس النواب المنتخب، وليس حكومة “الوفاق”، ناقضاً بذلك “الشرعية” المعترف بها دولياً لفايز السراج ولحكومته. والواقع أن أطرافاً دولية وعربية أخرى تشاطر مصر هذا الموقف، خصوصاً بعدما أبرم السراج اتفاقات مثيرة للجدل مع تركيا. فليس مؤكّداً أن “الاعتراف الدولي” ينطوي على تفويض السرّاج لتمكين الإسلاميين، أو يسمح له بعقد تعاون عسكري مع دولة مثل تركيا متعطّشة للتدخّل في الاقليم، حتى لو كانت واشنطن منحته ضوءاً أخضر. لكن، في المقابل، لم يكن لخليفة حفتر أن يطلق “معركة طرابلس” الخاسرة سلفاً، والأهم أنه لم يكن لداعميه أن يشجّعوه على هذه الحملة حتى لو أكّد لهم أنها “مضمونة النجاح”، إذ تبيّن سريعاً أن معطياته كانت خاطئة جداً وأنه تورّط وورّطهم. المهم أن الدعم العسكري التركي مكّن قوات حكومة “الوفاق” هذه من اخراج قوات حفتر من كل مناطق الغرب الليبي، بما فيها جنوبي العاصمة طرابلس، ودفعتها شرقاً الى أن بلغت تخوم سرت وراحت تحشد لاقتحام خط سرت – قاعدة الجفرة. عندئذ اعتبرت مصر أن أمنها القومي بات في خطر، تحديداً بسبب التدخّل التركي، فأعلن السيسي أن سرت – الجفرة “خط أحمر” ليبرّر تدخّل مصر بغطاء “شرعيّات” متعدّدة: برلمان طبرق، قبائل ليبية، وتفويض مجلس الشعب المصري. لكن ذلك لم يمنع نشوب جدل داخل مصر حول الأولويات: فهل أن المسألة الليبية أكثر تأثيراً وإلحاحاً من قضية سد النهضة الأثيوبي الذي يهدّد حصّة مصر من مياه النيل؟لم تبحث روسيا عن “شرعية” لتدخّلها في ليبيا من خلال شركة “فاغنر” شبه الرسمية، إذ لم تكن تأمل في أي اتفاق مع السراج لعلمها مسبقاً أن قراره في واشنطن، لكنها بحثت عمّن يموّل مرتزقة “فاغنر” ويمنحها تدخّلاً بلا كلفة فوجدت استعداداً إماراتياً، بل ان تركيا نفسها ضمنت مشاركة قطرية في الأعباء. أما في سورية فاعتمدت روسيا على “شرعية” بشار الأسد ونظامه، ونالت مصادقة “مجلس الشعب” على اتفاق يسمح بوجود روسي لنحو نصف قرن، في حين أن إيران لم تحصل على “شرعية” موثّقة لوجودها في سورية أبرمت أخيراً اتفاق تعاون عسكري مع النظام ويُتوقّع أن يُعرض على برلمان “انتخب” حديثاً وتعوزه “الشرعية” مثله مثل عشرات البرلمانات السورية المتعاقبة. لكن لعبة “الشرعية” في سورية كانت على هذا المنوال طوال أكثر من خمسة عقود. وإذ عوّلت روسيا منذ 2015 على “شرعية” الأسد فقد استفاقت أخيراً على واقع أنها باتت أسيرة “شرعية” وهمية لا تمنحها أي قوة دفع لإشراك المجتمع الدولي في حل سياسي + صفقة إعادة إعمار تتيح لها إنهاء الحرب وتقليص أعبائها.لم يتح الانقلاب على الحكومة الشرعية في اليمن للحوثيين اكتساب أي “شرعية” لسيطرة ميليشياتهم على نحو نصف جغرافية البلد. وإذ تنجح إيران في تهريب أسلحة وصواريخ وطائرات مسيّرة الى هذه الجماعة فإنها لم تتمكّن من مدّهم بأي مشروعية أو قبول على أي مستوى، لا محليّاً حيث زادت ممارساتهم استبداداً وبلطجةً، ولا اقليمياً لأن حرب التحالف العربي قطعت حبل التمكين الإيراني في اليمن، ولا دولياً لأن مشاكل ايران نفسها تضاعفت بسبب الضغوط والعقوبات الاميركية ولم يعد استخدام حوثيّيها مجدياً في أي مساومات. ومع أن أحوال “الحكومة الشرعية” تراجعت بسبب تضارب رؤى حلفائها العرب وتلكوء الحسم العسكري للحرب وتصاعد حركة إنفصاليي الجنوب، إلا أن “شرعيتها” المعترف بها دولياً لا تزال حجر الزاوية لأي حلول سياسية يمكن أن تتبلور حولها توافقات يمنية أو دولية.قد تعتقد إيران خاطئة بأن نفوذها في العراق أو في لبنان متمتّع بـ “شرعية” الأمر الواقع، وأنه أقوى من أي محاولة داخلية أو خارجية لزعزعته. فخريطة توزّع ميليشياتها في العراق، سواء على الأرض أو في تركيبة البرلمان ومفاصل الدولة، كفيلة بإضعاف واحباط أي تقليص لنفوذها، لكن ثمة مسيرةً مدعومة بقبول شعبي بدأت من أجل استعادة “شرعية” الدولة العراقية ومؤسساتها، ولم تعد العودة الى حكم “حزب الدعوة” متاحة، بل لم تعد في مصلحة إيران نفسها، وإلا فإن العقوبات الأميركية قد تخنق العراق نفسه وتقطع عن إيران شريان حياة هي في أمسّ الحاجة إليه لسنوات مقبلة. أما في لبنان، حيث بلغ “حزب الله” مصاف صنع “الرؤساء” وتصنيع الغالبية البرلمانية وتركيب الحكومات، فإن الأزمة الاقتصادية – المالية تبدو اليوم كأنها نتيجة انزلاق لبنان الى المحور الإيراني. فهذا بلد اعتمد دائماً على تعاطف عربي ودولي مكّنه دائماً من تجاوز أزماته من دون أن يتعرّض شعبه للعوز والجوع والذلّ. لم تتنبّه منظومة الحكم الى خطورة هيمنة “حزب الله” داخلياً والأدوار العدوانية التي لعبها خارج الحدود، من سورية الى العراق واليمن، عدا محاولاته التخريبية التي كشفت في الكويت والبحرين ودول عربية أخرى، لكن الأسوأ أن “الحزب” بات العقبة أمام محاولات منظومة الحكم هذه لمعالجة أعتى أزمة في تاريخ لبنان. لذلك لم يتمكّن بطريرك الموارنة من مواصلة السكوت رغم أنه تأخر كثيراً، فخرج عن صمته ليدعو رئيس الجمهورية الماروني الى “فك الحصار عن الشرعية” وعن “القرار الوطني الحرّ” وإلى تطبيق القرارات الدولية وترميم العلاقات مع العرب، ثم خلص للدعوة الى “حياد لبنان”. وبمقدار ما أن هذه الدعوة ليست جديدة أو غريبة على اللبنانيين بمقدار ما شعر “الحزب” بأنها تستهدفه وسلاحه “غير الشرعي” و”دويلته” واقتصاد التهريب الذي يديره. لكن ما أقلقه أن هذه الدعوة جاءت من رأس الكنيسة التي اعتقد أنه حيّدها، وأنها استُقبلت بترحيب عابر للطوائف، واعتُبرت مدخلاً لمعالجة الأزمة التي تبيّن لـ “الحزب” أنها أكبر من طاقته.مسألة “الشرعية” مزمنة، ومطروحة في أكثر من دولة عربية، خصوصاً في “الجمهوريات” التي نشأت بانقلابات عسكرية ولم تحترم يوماً المبادئ “الجمهورية”، بل اعتقد قادتها أن “الشرعية” تكمن أولاً وأخيراً في بقائهم على رأس السلطة. تفاقمت مشكلة “الشرعية” مع سقوط الأنظمة الاستبدادية، أو مع “صمودها” كما في سورية، ولأنها كانت شرعية وهمية فقد أدى سقوط الأنظمة الى طرح مسألة الدولة وكيف أنها كانت بدورها مجرد هياكل في خدمة الحاكم. “الشرعية” كمشكلة كامنة تغذّت بدساتير مفبركة وقوانين معلّبة وخطب شعبوية ورشى سلطوية لاستقطاب فئات ضد فئات، وعندما لا تفلح هذه الوسائل يلجأ الحاكم الى رشوة قوى خارجية لتحصين استبداده. كل الوسائل جُرّبت وكانت نتائجها كارثية، ولم يُترك مجال لـ “الشرعية” كي تتخلّق بشكل طبيعي فتتبنّى المواطنة ومع المواطنة احترام حقوق الانسان وكرامته، وتبني اقتصاداً واستقراراً وتعايشاً سلمياً. لكن “الشرعية” الضائعة أفضت الى دول آيلة للتفكّك.

مقالات ذات صلة

USA