يميّز رجال القانون بين حالتي ( الاعتقال ) و ( التغييب القسري) من خلال معايير عدّة، بعضها ذو طابع إجرائي، وبعضها الآخر ذو طابع نظري، مؤكّدين أن حالة الاعتقال تتّسم بالعلنية أولاً، إذ حين تُقدم السلطة الحاكمة على اعتقال أي مواطن فإنها لا بدّ ان تكون مزوّدة بمذكرة قضائية أولاً، ثم على الجهة المنفّذة للاعتقال أن تفصح عن هويتها المهنية وتفصح عن الجهة الأمنية التي تتبعها، إضافة إلى حقّ ذوي المعتقل بمعرفة الجهة والمكان الذي يمكث فيه المعتقل، ومن ثم حقهم بمتابعة أخباره وزيارته والاطلاع على سبب اعتقاله إلخ، أمّا في حالة التغييب القسري ( الخطف) فغالباً ما تكون الجهة الفاعلة مجهولة الهوية، تقوم باختطاف شخص ما دون مراعاة لأي إجراء قانوني أو أخلاقي، وبناء عليه، يصبح الشخص المُغيّب مجهول المكان والمصير ، فضلاً عن غياب كلّي لأسباب تغييبه.الحالتان المذكورتان وفقاً للتصنيف القانوني قد مورستا بكثرة تصل إلى حدّ الإفراط في الحالة السورية، ولكن بنسب متفاوتة بينهما، وفقاً لكلّ فترة زمنية – بحسب تصنيف بعض منظمات حقوق الإنسان – إذ تشهد الفترة الممتدة من أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتى انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011 ، شيوع حالة الاعتقال، وندرة حالات التغييب، بينما تشهد مرحلة ما بعد الثورة إزدياداً لحالات التغييب القسري، وذلك بسبب الحرب التي أحدثت انفلاتاً أمنياً كما أتاحت المجال واسعاً لحملة السلاح للتصرف بعيداً عن أي رادع إنساني أو قانوني.وعلى الرغم من دقّة التفريق بين الحالتين المذكورتين، واهمّية التمييز بينهما من الجانب النظري القانوني، إلّا أنهما في الحالة السورية قد جسّدتا تماهياً يكاد أن يكون كلّياً، سواءٌ من الناحية الإجرائية، أو من ناحية النتائج والتداعيات المادية والمعنوية التي تطال المعتقلين والمغيّبين معاً.ما هو مؤكَّد أن بداية مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي قد جسّدت مفصلاً تاريخياً وانعطافةً دالّة في تاريخ سورية الحديث، وأعني بذلك جملة التداعيات الخطيرة التي خلّفتها المواجهات الدامية بين نظام الأسد وجماعة الإخوان المسلمين، إذ لم تكن نتائج تلك التداعيات لتطال تنظيم الإخوان فحسب، بل امتدّت لتشمل عموم المجتمع السوري الذي بدأ يواجه منذ ذلك الحين توحّش الدولة التي حسمت أمرها بالإجهاز الكامل على حيوية المجتمع وكافة أشكال حراكه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وما كان بميسور النظام الحاكم أن يحقق عملية التجفيف الحيوي للسوريين بمعزل عن القوّة المتمثلة بالعنف الضارب للجيش والأجهزة الأمنية، والتي يدين لها وحدها نظام الأسد ببقائه واستمراره في السلطة.وعلى الرغم من محاولات النظام الرامية إلى شرْعنة العنف، وتأطيره قانونياً، كاستمرار العمل بموجب قانون الطوارئ المفروض منذ العام 1963 ، وإصدار القانون 49 ، وإحداث المحاكم الإستثنائية والميدانية، واستخدام مواد المرسوم رقم 6 الصادر عام 1965، والتي تحمل في مضامينها اتهامات بعيدة جداً عن الدقة والوضوح، بل تتيح للسلطة التفسير والتوظيف الذي يناسبها بغية النيل من الخصوم، على سبيل المثال وليس الحصر( إضعاف الشعور القومي – النيل من هيبة الدولة – مناهضة أهداف الثورة – مخالفة تطبيق النظام الإشتراكي …إلخ)، إلّا أن تلك المحاولات جميعها لم يكن بمقدورها أن تخفي الطابع التوحّشي البعيد بعدأً مطلقاً عن أي التزام بقرينة قانونية او إنسانية، لممارسات السلطة حيال من تعتقلهم أو تغيّبهم، طالما أن الطريقة واحدة، والهدف مشترك، وفي هذه النقطة يمكن الحديث عن تماهي حالتي الاعتقال والتغييب، بدءاً من مداهمة عناصر الأمن للشخص المطلوب، دون أي إجراء قانوني مسبق( إشعار خطي من النيابة)، وكذلك دون الإفصاح عن هوية رجل الأمن أو الجهة الأمنية التي يتبع لها، وأيضاً دون مراعاة الحدّ الأدنى لحُرْمة البيوت أو لساكنيها من أطفال أو نساء، فضلاً عن حالة الترويع والخوف التي تصل إلى حدّ الإهانة الجسدية للشخص المطلوب ومَن حضر من ذويه أثناء عملية احتجازه، وحالما يُنهي رجال الأمن عملية استيلائهم على الشخص المطلوب، حتى يصبح ذلك الشخص في عداد مجهولي المصير، إذ بمجرّد وصوله إلى أقبية التحقيق حيث تتلقفه سياط الجلادين، يصبح من العسير على ذويه السؤال عنه أو الاستفسار عن سبب احتجازه أو متابعة أخباره، ليس بسبب امتناع السلطة عن الاستجابة فقط، بل لأن مجرّد السؤال عن معتقل لدى السلطة هو تهمة قائمة، وهناك العديد من حالات الاعتقال التي تعرض لها مواطنون بسبب سؤالهم عن أحد ذويهم او أقاربهم لدى الأفرع الأمنية. كما تجدر الإشارة إلى أن نظام الأسد غالباً ما كان يلجأ إلى إنكار وجود معتقلين لديه، وهذا ما كان جوابه في غالب الأحيان للعديد من الجهات القانونية والإنسانية التي تطالبه بالكشف عن أحوال ومصير الآلاف من المواطنين في سجونه.يمكن القول: إن العلامة الفارقة بين حالتي الاعتقال والتغييب، كما عليه الحال في سورية، تكمن في مسألة واحدة فقط، وهي أن حالة الاعتقال – بكل ما تنطوي عليه من تعسّف وتوحّش – غالباً ما تكون في العلن، دون ان يلجأ عناصر المخابرات إلى مغافلة أحد من الناس، لاعتقادهم بان ما يقومون به هو تنفيذ لأوامر السلطة الحاكمة، بينما في حالات التغييب غالباً ما يلجأ الخاطفون إلى استغفال الجمهور العام، واختيار اللحظة التي لا يراهم فيها أحد، وإذا تعذّر عليهم ذلك فغالباً ما يحاولون إخفاء وجوههم بأقنعة تحول دون تحديد ملامحهم، أما في سوى ذلك، فتكاد الحالتان تتماثلان، وخاصة في المصير الذي يلي لحظات الاعتقال، مع التأكيد دائماً على أن حالة التماهي التي نتحدث عنها قد طالت بعض السجناء أكثر من غيرهم، وهذا التفاوت النسبي في تعاطي السلطة مع خصومها كان يخضع لاعتبارات أمنية بالدرجة الأولى، إذ من المعروف أن الفروقات بين السجون كانت واسعة، فسجن تدمر الصحراوي الذي كان يحوي معظم السجناء الإسلاميين وسجناء بعث العراق، كان أشدّ قسوة بكثير من السجون المدنية الأخرى التي كان أغلب سجنائها من اليساريين، شيوعيين وقوميين.في أواخر العام 1991 ، أفرج حافظ الأسد عن أول دفعة من السجناء السياسيين بلغ تعدادها ( 2800 ) سجيناً، كانت النسبة العظمى هي من الإسلاميين الذين تم اعتقالهم بين عامي 1979 – 1980 ، والقسم الأعظم من هؤلاء لم يروا أحداً من ذويهم، وكذلك لم يعلم عنهم ذووهم شيئاً إلّا حين خرجوا من السجن، أي انهم كانوا في حالة تغييب كامل طيلة فترة مكوثهم في السجن.بعد العام 1991 بقي الآلاف من السجناء مجهولي المصير بالنسبة إلى ذويهم، باستثناء بعض الحالات التي يتمكن فيها ذوو المعتقل من زيارته لقاء واسطة كبيرة، أو دفع مبلغ مالي كبير، واستمرّ هذا الحال سارياً حتى صيف عام 2001 ، حين أصدر الوريث بشار أمراً يقضي بإفراغ سجني المزة وتدمر، ونقل من كان فيهما من السجناء إلى صيدنايا، وبالفعل كانت آخر دفعة من السجناء تغادر سجن تدمر بتاريخ 11 آب 2001 ، وفي سجن صيدنايا أُتيح لأهالي وذوي السجناء رؤية أبنائهم، و حين ذاك تحديداً، علم الكثير من أهالي السجناء إنْ كان مفقودوهم ما يزالون أحياء، أم تمت تصفيتهم، سواء في مجزرة سجن تدمر في حزيران 1980 ، أو في مجازر التعذيب اليومية.أميل إلى الاعتقاد بأن الإبادة والتوحّش الممنهج الذي مارسه نظام الأسد بحق السوريين على امتداد نصف قرن، لهو حالةٌ عصيّة على التأطير أو التوصيف القانوني، واستمرار هذه الإبادة حتى الوقت الراهن يعزّز القناعة يوماً بعد يوم بأن اندحار الضمير الإنساني أمام شهوة التوحّش هو الناموس الغالب.