لعله من قبيل المصادفة غير العادية أن يحمل لنا شهر أيلول الجاري في أعتابه حدثين اثنين، ربما يبدوان متباعدين من حيث الحوامل والأهداف، إلّا أن ثمّة ما يجمعهما سواءٌ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، يتمثّل الحدث الأول بالاتفاق الذي أُبرم بين ما يُدعى بـ ( حزب الإرادة الشعبية) الذي يرأسه قدري جميل، المقرّب من نظام الأسد وموسكو، وبين ( المجلس السياسي لقوات سورية الديمقراطية – مسد)، ويتمثل الحدث الآخر الموازي له من حيث التوقيت، بالتصريحات التي أدلى بها المسؤول الشرعي في هيئة تحرير الشام ( عبد الرحيم عطون) إلى صحيفة ( لوتيمبس) السويسرية.لعله من الصحيح أنْ لا شيء يجمع بين الطرفين ( جبهة النصرة وقوات سوريا الديمقراطية) من الناحية الإيديولوجية أو التنظيمية أو السياسية، بل ربما العكس هو الصحيح، ذلك أن الفكر ( القاعدي) للنصرة هو على النقيض من الاتجاه الأوجلاني ذي المنحى (الأممي الديمقراطي)، أضف إلى ذلك أن تنظيمات النصرة باتت محاصرة في حيّز جغرافي محدد لا يتجاوز مدينة إدلب وبعض أريافها، وهي مُستهدفةٌ دولياً لكونها مصنّفة على لوائح القوى الإرهابية، أما قوات سوريا الديمقراطية فهي المُقرّبة من الولايات المتحدة وأوروبا، بصفتها شريكة للتحالف الدولي في مقاتلة داعش.إلّا أن هذا التباعد في الإيديولوجيا وفي جغرافيا التحالفات، لا يلغي تماثلات عديدة، ربما فرضتها طبيعة الصراع في سوريا، ولعل من أبرز تلك التماثلات:أولاً : كلتاهما قوّة طارئة على القضية السورية، ومناهضة لها في الوقت ذاته، إذ لم يكن مشروع النصرة ومشتقاتها هو المشروع المتماهي مع ثورة السوريين، ولا قضية التغيير الوطني هي الشغل الشاغل لها، بل إن صراع مجمل التنظيمات الجهادية هو في مواجهة ( ملة الكفر) أينما وُجدت بحسب تعبيرهم، وبالتالي فإن وجود النصرة على الأرض السورية إنما أتاحته ظروف الحرب وحالة الفوضى، كما هي الحال دائما حين تفرّخ المجموعات الإسلامية المتطرفة في البؤر التي تشهد انفلاتاً أمنيا ( أفغانستان – العراق – سوريا – ثم ليبيا ..)، فضلاً عن مساعي بعض الدول الإقليمية التي أرادت العبث بدماء السوريين وإجهاض ثورتهم، أمّا مواجهاتها العسكرية مع قوات النظام، فلا تعني بالضرورة أنها بسبب تجسيد تطلعات السوريين بالتغيير الوطني والقضاء على الاستبداد، بقدر ما تبدو دفاعاً عن تموضعاتها الراهنة على الجغرافيا السورية وحرصها على تأمين المزيد من المكتسبات والسيطرة على قنوات المال والاقتصاد، وتبقى قضيتها الأساسية ليست مرتبطة بوجود نظام الأسد أو بزواله، بل بقدرتها على الاستمرار وتحصيل المزيد من النفوذ، وبناء على ذلك، فإن وجود جبهة النصرة وجميع التنظيمات الجهادية على الأرض السورية إنما كان في حالة تضاد دائم مع قوى الثورة السورية، سواء على المستوى العسكري في مواجهاتها مع فصائل الجيش الحر، أو على مستوى الحراك الميداني من خلال اعتقالها وتصفياتها للعديد من الناشطين السوريين.استطاعت جبهة النصرة بأطيافها المختلفة، وكذلك قوات سوريا الديمقراطية ممثلة بالإدارة الذاتية، أن يحوزا على مساحات من الجغرافيا السورية، ويقيما عليها سلطة ذات هيكل إداري يتناسب مع تصوراتهماأما قوات سورية الديمقراطية فقد تشكلت في شهر أكتوبر من العام 2015 ، كذراع عسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي pyd ، وغني عن البيان أن هذا الحزب هو امتداد لحزب العمال الكردستاني pkk ، الذي نشأ ونشط في تركيا، ومشكلته الأساسية هي مع الحكومة التركية وليس في سوريا، وقد ظل هذا الحزب يتلقى كل أشكال الدعم من نظام الأسد الأب حتى توقيع اتفاقية أضنة 1998 . ولم تكن ثورة السوريين في آذار 2011 لتحدث شرخاً في العلاقة بين نظام الأسد الابن وحزب الاتحاد الديمقراطي الذي ظلّت مشكلته المحورية تكمن في مواجهة الحكومة التركية وليس نظام الأسد، فلماذا يتحمل السوريون جريرة هذه المواجهة؟ ولماذا يتوجب على السوريين المساهمة في استنبات حزب غير سوري ولا يتعاطف مع قضيتهم ، بل لا يجد نفسه في غالب الأحيان إلا في صف خصومهم وأعني النظام وحلفاءه.ثانياً : لقد استطاعت جبهة النصرة بأطيافها المختلفة، وكذلك قوات سوريا الديمقراطية ممثلة بالإدارة الذاتية، أن يحوزا على مساحات من الجغرافيا السورية، ويقيما عليها سلطة ذات هيكل إداري يتناسب مع تصوراتهما، ففي مدينة إدلب أقامت النصرة ( حكومة الإنقاذ) وفي منبج وشرقي الفرات أقامت قسد ( الإدارة الذاتية)، وما كان ذلك ليحصل إلّا بفعل القوّة التي تمتلكها الفئتان، فلا سكان الجزيرة السورية ومنبج – بما فيهم الكورد – يشكلون حاضنة لحزب الاتحاد الديمقراطي، ولا سكان إدلب وريف حلب الغربي هم حاضنة حقيقية للنصرة، إذ إن كلتيهما في جوهر الأمر سلطات أمر واقع، وقد استمرّا في النمو والبقاء بفضل تحالفاتهما الدولية والإقليمية، وبفضل ما تقدمه لهما تلك التحالفات من الدعم ووسائل القوة، إذ إن كلّاً منهما كانت وما تزال تؤدي دوراً وظيفياً يخدم هذه الجهة الدولية أو تلك.ثالثاً : اليوم، وبعد انحسار الحرب في سوريا وتموضعها في بقع جغرافية محدّدة، مع بقاء الحل السياسي في حالة استعصاء، يبدو أن طبيعة صراع المصالح الدولية قد أصابها الكثير من التبدّل والتغيير، ولعله من الطبيعي أن تتغيّر الأدوار الوظيفية لسلطات الأمر الواقع أيضاً، ولا شك أيضاً أن تبقى هذه السلطات تهجس بالبحث عن سبل استمرار بقائها ، من خلال البحث عن تحالفات جديدة تتيح لها حيازة أدوار وظيفية أخرى تمنحها المزيد من الديمومة.لقد جسّدت تصريحات ترامب أواخر العام 2019 مبعث قلق كبير لقسد، حين أفصحت الإدارة الأمريكية عن رغبتها بسحب قواتها من سوريا، الأمر الذي سيفقد قسد المظلة التي تحميها، ومنذ ذلك الحين بادرت قسد إلى فتح قنوات حوار مع النظام من خلال عدّة زيارات متبادلة بين دمشق والقامشلي لم تسفر عن شيء ذي قيمة حتى الآن، وفي الوقت ذاته سعت لأن تكون جزءاً من وفود المعارضة في مسار المفاوضات، وقد دفع الأميركان بهذا الاتجاه، إلّا أن الرفض التركي حال دون ذلك، كما سعى الروس إلى الهدف ذاته وأخفقوا بسبب رفض شريكهم التركي في مسار أستانا، أضف إلى ذلك مجمل الجهود الأمريكية التي شجّعت زيارات مسؤولين خليجيين إلى شرق سوريا بهدف تشجيع وحض العشائر العربية لإبداء مرونة كافية حيال التعاطي مع قسد، فهل سيكون الاتفاق الذي وقعه كلٌّ من (إلهام أحمد عن مسد – وقدري جميل عن حزب الإرادة الشعبية) هو فاتحة اندماج جديد؟ لعلّ الدوافع والهموم ذاتها كانت وراء تصريحات عبد الرحيم عطون ، الشرعي في جبهة النصرة، مؤكّداً رغبة جماعته بتحسين صورتها في نظر المجتمع الدولي، واستعدادها الكامل للتعاطي مع الإرادة الدولية بإيجابية، ليس نتيجة لخيارات منسجمة مع التصورات الإيديولوجية للنصرة، بقدر ما هي حاجة باتت تفرضها دواعي البقاء والاستمرار، فهيئة تحرير الشام في الوقت الراهن ترى أن الجغرافيا باتت عاملاً خاذلاً لها، فمعظم قواتها محشورة في منطقة واحدة ( إدلب)، ولا شيء يحول دون الانقضاض عليها سوى احتمائها بثلاثة ملايين مواطن مدني، تقيم على رؤوسهم سلطتها وتقتات من أرزاقهم وتفرض عليهم شرائعها بصفتها وكيلة لله على أرضه، ولكنها في الوقت ذاته لا ترى غضاضة في أن تطرق أسماع المجتمع الدولي لتؤكّد له قدرتها على تغيير جلدها إن كان التغيير المفترض سيكون عاملاً من عوامل بقائها، فهل ستكون تصريحات عطون هي رهانها الأخير؟.