عبد الله التركماني
إشكالية الدولة وأسئلتها من بين أكثر الإشكاليات تعقيداً والتباساً في الخطاب السياسي السوري، فمنذ سنة 1963 هي دولة القهر والتغلُّب، حيث العلاقة بين الحاكم والشعب علاقة تسلط واستئثار وهيمنة. مما جعل أزمة الدولة السورية تكمن في استمرارية الممارسات السلطوية الاستبدادية وغياب الحكم الرشيد طوال ما يقرب من خمسين سنة، حيث لم تدرك سلطة الدولة التلازم الضروري بين الحرية والعقلانية والتنمية، وأحالتها إلى خلفية اهتماماتها.
وبعدما تماهت الدولة مع السلطة وحزب البعث الحاكم والزعيم الواحد الأحد، منذ انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في عام 1970، فإنّ التمييز بين الدولة وسلطتها وغيرها من الأجهزة المندرجة في إطارها أمر في غاية الأهمية لفهم مضمون الدولة وتمثلها من جهة، ولترشيد الفعل السياسي والمدني من جهة أخرى.
فحين يصبح هذا التمييز منغرساً في وعينا الجمعي، ومنبثاً في ثقافتنا السياسية، نستطيع ترتيب ولاءاتنا بشكل عقلاني وسليم، حيث تنتصب الدولة، باعتبارها دولة حق وقانون، في المقام الأول، وتتصدر غيرها من الإعاقات، وهي كثيرة في سورية. ولكنّ هذه الإعاقات قابلة للتجاوز بالتدريج والمراكمة الفعلية، إذا توفرت سلسلة من الشروط المساعدة والميسِّرة لها، وفي مقدمتها حصول مصالحة مزدوجة: مصالحة المجتمع مع الدولة، على أنها بيت للجميع، ومصالحة الدولة مع المجتمع، باعتباره محور الدولة وقطب رحاها.
وفي هذا السياق فإنّ السيادة الوطنية تتحدد بمدى احترام سلطة الدولة لحقوق المواطنين، وضرورة إشعار الفرد بأنّ الدولة هي الحصن لحمايته، وهي بناء مستقبل زاهٍ لأبناء الوطن كلهم دون استثناء، وما من عوائق دون ترقية الاندماج الوطني، بما يقتضيه من جهود فكرية وسياسية واجتماعية وقانونية كبيرة.
وفي سياق الدولة لا تكتمل السيادة الوطنية من دون تمتع كافة المواطنين بالحريات غير منقوصة: حرية الرأي والتعبير، حرية التجارة والتنقل، حرية تشكيل أحزاب وروابط مدنية وسياسية. أي لابد أن تتأصل الديمقراطية في مفاصل الحياة السياسية، بحيث لا تبقى مجرد آلية لانتخابات شكلية.
كما أنّ ممارسة السيادة الوطنية، من قبل سلطة الدولة الحاكمة، تستدعي وجوب وجود معارضة سلمية منافسة تضبط الحكم، من خلال تطلعها للحكم مستقبلاً، واستعدادها للمنافسة في الانتخابات المقبلة الدورية.
إنّ ترسيخ قيم المواطنة، فكرياً وعملياً، لدى أفراد المجتمع ومؤسسات الدولة، أصبحت من واجبات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، هذه القيم التي يأتي في مقدمتها:
الوعي بمهام الدستور، وبالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للفرد والمجتمع، وبمهام الفرد، ومدى الحريات الممنوحة له وأنواعها، وبكيفية تشكيل القرارات السياسية، وكيفية تنفيذها، وبنمط الحكم السائد، وبشروط التمثيل النيابي، وبكيفية المشاركة في الانتخابات، وتشكيل المجالس النيابية، وغيرها من قضايا المواطنة التي تساهم في رفع سوية المواطنة ذاتها، وتخليص الفرد والمجتمع والدولة على السواء من عقلية وثقافة الراعي والرعية، وكل ما يعيق تحقيق دولة الحق والقانون.
هذه الدولة، إذا ما حققت مشروع المواطنة لأبنائها، ستشكل الرافعة العملية والفكرية لاستمرار الدولة السورية وقوتها بعد التغيير.
وهكذا فإنّ الحل للخروج من مأزق الدولة السورية المستمر هو مغادرة بنيان الإقصاء والعنف إلى رحاب بنية اجتماعية – سياسية – ثقافية تقوم على العمل المنتج واستثمار الموارد الاقتصادية والبشرية وزيادتها، وتحرر إرادة الوطن والمواطن، والإطار الصحيح لقيام هذه البنية هو:
– المواطنة كعقد لتنظيم علاقات الأفراد والجماعات.
– الديمقراطية كإطار لقيام مشاركة سياسية تضمن فصل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتداولها.
– التنمية الشاملة لاستثمار الموارد الاقتصادية والبشرية وتطويرها وتوظيفها لقيام اقتصاد منتج، يرفع مستوى معيشة السكان ويؤمن العدالة الاجتماعية.