سمير صالحة
تزايد في الآونة الأخيرة عدد مَن يتحدّث في تركيا عن عملية أمنيّة عسكرية واسعة تشمل المناطق الحدودية في سوريا والعراق تحت عنوان “كنس” المجموعات الإرهابية في تلك المناطق.
فهل يسرع اعتداء “كزيلاي”، الذي أعلن “حزب العمّال الكردستاني” قيامه به، التحرّك العسكري التركي ضدّ هذه العناصر التي تحوّلت إلى ورقة سياسية وأمنيّة من قبل أحزاب وشخصيّات وقوى محلية وإقليمية؟
استيقظ الأتراك صباح الأحد المنصرم على خبر هجوم إرهابي نفّذه شخصان واستهدف مبنى المديرية العامّة للأمن بوزارة الداخلية في العاصمة أنقرة.
بعد أقلّ من ساعة كان وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا يعلن أنّ إرهابيَّين اثنين هاجما حرس مدخل مبنى المديرية في منطقة “كيزيلاي” فاشتبك معهم رجال الأمن، ففجّر أحد المهاجمين نفسه فيما تمّ تحييد الآخر.تحرّكت الأجهزة الأمنيّة والعدليّة للتحقيق في الحادثة التي وقعت قبل ساعات من انطلاق أعمال الدورة الجديدة للبرلمان التركي وعلى مسافة لا تبعد سوى مئات الأمتار فقط عن مبنى مجلس الأمّة في العاصمة التركية.
يناقش الإعلام التركي أكثر من سيناريو أمنيّ لطريقة التخطيط والتنفيذ ودخول العنصرين الأراضي التركية ووصولهما إلى العاصمة أنقرة وهما ينقلان هذه الكميّة من الأسلحة والذخائر التي كانت بحوزتهما.
تابع الجميع تفاصيل خطف الطبيب البيطري من قبل عناصر الحزب المصنّف إرهابياً من قبل العشرات من الدول، وقتلهم له بدم بارد في مدينة قيصري في قلب الأناضول، واستيلائهم على سيارته للانتقال بها إلى ساحة “كزيلاي” في أنقرة لتنفيذ مخطّطهم.
نفاد صبر تركيا
يتحدّث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من جديد عن نفاد صبر تركيا، لكنّه لا يقول بأيّ اتجاه سيكون الردّ.بعد ساعات فقط تمّ تأكيد هويّة أحد المهاجمين المنتسب إلى حزب العمّال فجاءت الرسالة التركية الأولى السريعة والمباغتة مساء على شكل غارات ضدّ 20 هدفاً لهذه العناصر في متينا وهاكورك وقنديل بشمال العراق.
وأعلن رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألطون أنّ الغارات الجوّية التي نفّذها الجيش التركي في شمال العراق مؤشّر مهمّ إلى مواصلة أنقرة التضييق على الإرهاب، ليس داخل البلاد فحسب، بل خارج حدودها أيضاً.
يتحدّث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من جديد عن نفاد صبر تركيا، لكنّه لا يقول بأيّ اتجاه سيكون الردّهذه الغارات رفضتها الرئاسات العراقية الأربع في بيان مشترك معتبرة أنّ “أيّ عدوان يستهدف أراضي البلاد يتنافى مع مبادئ حسن الجوار ويهدّد أمن واستقرار البلاد والمنطقة.. حلّ الإشكاليات والاختلاف يتمّ عبر الحوار والتفاهمات والتعاون والتنسيق المشتركين”.
من الممكن طبعاً أن تتمّ تفاهمات عراقية إيرانية أمنيّة تعطي طهران ما تريده في إطار تفكيك معسكرات المجموعات في إقليم كردستان التي تهدّد أمنها، ونزع سلاح مقاتليها، وإبعاد مراكز تجمّع تلك المعارضة عن حدودها، وتسليمها المطلوبين، ومنح بعضهم صفة اللجوء وفرض عقوبات مشدّدة على من يحمل السلاح. كلّ ذلك هو شأن عراقي إيراني في النهاية.
ومن الممكن أيضاً أن يقول لنا مستشار الأمن القومي العراقي إنّ أمن العراق من أمن إيران والعكس صحيح.
لكنّ ما تنتظر أنقرة سماعه هو الكلام نفسه الذي قيل للإيرانيين على لسان الخارجية العراقية عن أنّ “الحكومة العراقية بدأت بتنفيذ الإجراءات الخاصة بتأمين الحدود المشتركة مع إيران بالتنسيق مع حكومة إقليم كردستان العراق، وتذكّر بموادّ الدستور العراقي التي تقول إن الأراضي العراقية لن تُستخدم مقرّاً أو ممرّاً لإلحاق الضرر والأذى بأيّ من دول الجوار”، وليس ما سمعناه على لسان الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد الذي قال: “نحن نرفض الخروقات التركية للأراضي العراقية.. ومن الضروري أن تراعي تركيا وضع العراق”.
ما هو المطلوب من بغداد؟
ما تريده أنقرة باختصار من بغداد، التي تدعو القيادات التركية إلى عدم خرق الأجواء والأراضي العراقية، قبول حقيقة أنّ توقيت القيام بهذا الهجوم يواكبه الكثير من الفرضيّات والسيناريوهات المصحوبة بأكثر من تطوّر على صعيد التحوّلات في سياستَيْ تركيا الداخلية والخارجية، وأنّ الشقّ المتعلّق بالزيارات المكثّفة على خطّ أنقرة – بغداد وهذا التقارب السياسي والتجاري والتفاهمات الأخيرة بين القيادات السياسية حول تسريع عملية إطلاق الممرّ العراقي التجاري الإقليمي وقرار إعادة تفعيل خطّ نقل بترول كركوك عبر مصفاة جيهان، هو أيضاً بين المسائل التي أقلقت البعض وحرّكت هذه الأدوات باتجاه محاولة استهداف قلب العاصمة التركية.
لم يكن يوماً الإرهاب الذي يستهدف تركيا من قبل العديد من التنظيمات والمجموعات مسألة مرتبطة بالداخل وحده. هناك دائماً قوى خارجية تحرّك وتجيّش وتوجّه ضدّ تركيا.ما جرى أمام مدخل المديرية العامة للأمن الخارجي مرتبط بخيبة أمل تتعلّق بتطوّرات بينها:
– المشهد في كاراباخ وارتداداته على جنوب القوقاز.
– نتائج الانتخابات التركية والرهان على حصان خاسر.
– فشل السويد في تنفيذ تعهّداتها المقدّمة لأنقرة على طريق عضويّتها في حلف شمال الأطلسي.- التقارب التركي العراقي في ملفّات استراتيجية يتقدّمها الممرّ التجاري العراقي الإقليمي.
أدان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن “هذا الهجوم الإرهابي”، وأعلن وقوف بلاده إلى جانب تركيا ضدّ كلّ أشكال الهجمات الإرهابية.
لكنّ أنقرة تقول إنّ مجموعات “قسد” التي هي امتداد فكري وسياسي وعسكري لحزب العمال في سوريا، حصلت على الغطاء الذي كانت تبحث عنه من قوات التحالف الدولي تحت شعار محاربة تنظيم “داعش”.
يبدو أنّ واشنطن لا علم لها بقناعة غالبية الأتراك بأنّ لها دوراً في توفير الحماية والرعاية والحصانة، إذا ما تمكّنت من ذلك، لهذه المجموعات. فقياداتها وكوادرها تتنقّل على خطّ القامشلي – السليمانية برّاً وجوّاً برعاية أميركية، لكنّ القيادات العراقية ترفض التدخّل العسكري التركي.
كيف يدخل ويخرج مظلوم كوباني وكوادر “قسد” الأراضي العراقية وينتقلون عبر مطار السليمانية إلى الخارج؟ هل يحصلون على تأشيرات عراقية من السفارة في دمشق أم لا يحتاجون إلى ذلك لأنّهم لا يحتاجون إلى جواز مرور أصلاً؟
الخروقات التركية مرفوضة عراقياً، لكنّ الوسيلة الوحيدة لقطع الطريق عليها هي البحث عن خطط تنسيق مع أنقرة للقضاء على انتشار مجموعات حزب العمال في قنديل وجوارها، ودفع ميليشيات إيران العراقية إلى التوجّه إلى شمال العراق، لكن ليس لمحاربة القوات التركية بل لمحاربة عناصر حزب العمال وكوادر “قسد” التي تتنقّل كما تريد على خطّ شمالي سوريا والعراق.
لماذا لا تتحرّك هذه الميليشيات للدفاع عن الأراضي العراقية وسيادة البلاد في مواجهة عناصر ومجموعات حزب العمال و”قسد”، وهي الطريق الأسهل والأقصر لسحب ورقة أنقرة من يدها؟
يدعو البعض إلى عقد اتفاقية أمنيّة مع تركيا على غرار الاتفاقية الموقّعة مع طهران لإبعاد المجموعات الكردية المناوئة لها عن الحدود وتجنّب عملياتها. لكنّ الوضع مختلف بين الحالتين التركية والإيرانية سياسياً وأمنيّاً.
فأنقرة لن تقبل أن يتحوّل الجيش العراقي أو الميليشيات الإيرانية المحسوبة عليه إلى قوات فصل توفّر الحماية لهذه العناصر داخل العراق، لأنّ بغداد ستجد نفسها في ورطة سياسية وأمنيّة هي بغنى عنها في هذه الظروف الصعبة التي تعيشها.
ترفض القيادات العراقية أن تكون أراضي بلادها مستباحة وعرضة للخروقات التي تهدّد أمنها وسيادتها، وهي محقّة في ذلك.
الرسالة قبل أن تكون باتجاه أنقرة ينبغي أن تكون باتجاه من يدعم ويسهّل تحرّكات عناصر حزب العمال على خطّ الحدود العراقية – السورية والعراقية – التركية.
الردّ التركي في شمال العراق سيعقبه حتماً ردّ آخر في العمق السوري حتى لو كانت هذه المجموعات تحت الحماية والرعاية الأميركيتين كما تجمع وتطالب الكثير من الأقلام والقيادات السياسية والحزبية في تركيا اليوم.
نتحدّث عن ارتدادات الموضوع على العلاقات بين أنقرة وبغداد بشقّه المتعلّق بشمال العراق، لكنّنا ننسى مساره على الخطّ الآخر أنقرة – دمشق وارتداداته المحتملة في شمال سوريا.
الردّ التركي الأوّل كان باتجاه قنديل وسنجار. لكنّ الردّ الأوسع قد يكون على جبهة شمال شرق سوريا حتى لو كانت القوات الأميركية سدّاً منيعاً هناك.