-الحوار المتمدن -٢٥/٨/٢٠٢١
*د. عبد الله تركماني*
أكدت التجارب الدولية في مجال الانتقال الديمقراطي أنّ هناك حاجة ماسة للاشتغال الجدي على آلية مجدية للحوار الوطني، ذلك أنّ عملية الانتقال الديمقراطي في سورية المستقبل ليست جواباً عن وضعية سياسية فقط، بل هي جواب عن وضعية مركبة مظهرها الأمثل التمزق الاجتماعي المتمثل في تخريب العلاقات الإنسانية التي تقوم على التواصل بين الأفراد والهيئات والمكونات القومية والدينية والمذهبية.
وهكذا كانت الطبيعة المختلفة والمعقدة للتغيّرات، في إطار عملية الانتقال الديمقراطي، سبباً في تصنيفات انطلقت من أساليب ووسائل التغيير أو قواه، وذلك بحسب الظروف المحلية البالغة الاختلاف بين دولة وأخرى بطبيعة الحال، وفي إطار ذلك صنفت الأشكال التالية في الانتقال الديمقراطي: الانتقال التفاوضي، وهو الشكل الذي تحولت فيه إسبانيا ومعظم بلدان أمريكا اللاتينية والمغرب.
والانتقال الموجه، وهو الشكل الذي تم في كوريا الجنوبية والفلبين واليابان، تحت تأثير الاستراتيجية الأمريكية. وكذلك في تركيا ودول أوروبا الشرقية والوسطى، إذ إنّ ضرورات الاندماج في الاتحاد الأوربي شكلت آلية قوية موجهة للدمقرطة.كما نجحت دولة جنوب أفريقيا بإرساء دعائم الديمقراطية حينما حصل انتقال انسيابي مدروس من مرحلة الدكتاتورية إلى مرحلة الديمقراطية، وضمن مرحلة انتقالية طويلة تم خلالها تحضير الشعب وتهيئته لممارسة خبرة الديمقراطية.
وكذلك تمكنت حركات التغيير في أمريكا اللاتينية من الإيفاء بالشروط الرئيسة للانتقال من نظم الاستبداد العسكري إلى النظم الديمقراطية بكلفة محدودة وفي زمن قصير نسبياً.وهكذا نلاحظ في كل النماذج التاريخية أنّ الانتقال السياسي يحدث في فترة زمنية غير طويلة، سواء كان ذلك نتيجة انقلاب عسكري أو ثورة شعبية أو قرار إرادي عن سلطة سياسية، لكن التحول الديمقراطي يتطلب مساراً يسلك فترة زمنية قد تطول أو تقصر حسب الحالة والظروف المحيطة بها.
فالتحول الديمقراطي يستلزم تغيراً في العادات والتقاليد السياسية والاقتصادية وأحياناً الاجتماعية والثقافية، وهذا مسار تتمرس خلاله الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني على ممارسة أدوارها ووظائفها، وتنتشر فيه رويداً حرية التفكير والمعتقد والاجتماع والتعبير والقبول بالرأي الآخر، ويتعلم الشعب كيفية الرقابة على المؤسسات والسلطات.
وفي سورية يبدو أنّ المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية ستعترضها تحديات عديدة من أهمها التحديات المؤسسية، التي تشمل:
– العدالة الانتقالية، التي ترتبط بالتحول والانتقال السياسيين من أجواء الشمولية والاستبداد إلى الممارسة الديمقراطية، وهي وسيلة لتجاوز الإكراهات والمشاكل في مختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي عانت منها الدولة والمجتمع، وآلية فعالة للتخلص من التراكمات السلبية للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بالصورة التي تسهم في حدوث انتقال نحو الديمقراطية بناء على أسس متينة، توفر شروط التسامح والمصالحة والشرعية والتعددية والاستقرار داخل المجتمع.
إنها وسيلة لرأب الصدع وتوحيد المجتمع ومنع تكرار التجارب المؤلمة في المستقبل، كما تعد أيضاً وسيلة لتجاوز الجمود السياسي في سورية السائرة نحو الديمقراطية.– شفافية الانتحابات ونزاهتها، من خلال ثلاثة معايير رئيسية: أولها، معيار الفاعلية، أي أن تُحقِّق السيادة للشعب، وتداول السلطة وتوفير الشرعية الشعبية للحكام ومحاسبتهم.
وثانيها، معيار الحرية، أي ضرورة أن تستند الانتخابات إلى حكم القانون، وأن تحترم حقوق المواطنين في المعرفة وفي التعبير والاجتماع وتشكيل الأحزاب السياسية. وثالثها، معيار النزاهة والشفافية، بمعنى أنها لا بد أن تجري تحت إشراف قضائي ومراقبة محلية وعربية ودولية.
– الدستور الديمقراطي، وذلك لإكساب عملية التغيير الشرعية التي يمكن الاستناد إليها من خلال وثيقة يسهم الجميع في إنجازها، وتأخذ في الاعتبار المعايير الديمقراطية التي تعتبر قيماً عليا، أو ما نسميه مبادئ محصّنة في الدستور، تقوم على الحرية والمساواة والعدالة، وهي إذا ما أدرجت بالدستور على شكل مواد ملزمة، فإنها تحدد معانيه ومبانيه في إطار شفاف يقوم على الحقوق والحريات والمساءلة وفصل السلطات واستقلال القضاء وتداول السلطة سلمياً وتحقيق المشاركة من دون تمييز أو إلغاء أو تهميش.
– جدلية الديني والسياسي، إذ صار مطلوباً أن يتم البحث في جدلية الديني والسياسي في سورية المستقبل، لأنّ هذا قد يؤدي إلى تقديم أنموذج جديد، عبر إعادة التفكير بهدوء في عناصر تلك الجدلية التي تفرض نفسها باضطراد.
كما أنه لن يكون ممكناً إلا إذا استطاع الساسة والمثقفون السوريون، من مختلف المدارس الفكرية والسياسية، تجاوز مواقفهم المعروفة، الإسلامية والعلمانية، تجاه تلك الجدلية.– كونية وشمولية حقوق الإنسان، إذ تكشف دراسة الوثائق الدولية المدى الواسع لكونية وشمولية حقوق الإنسان.
فمفهوم حقوق الإنسان في الوقت الحاضر مفهوم شامل لا يقتصر على فئة واحدة من الحقوق دون غيرها، فهو يشمل حقوق الأفراد والجماعات والشعوب، كما ينطوي على حقوق سياسية ومدنية مثلما ينطوي بنفس القدر على حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية.ومن المؤكد أنّ النجاح في تجاوز العقبات التي ستعترض هذه التحديات المؤسسية يتطلب الاهتمام بالتنمية السياسية، باعتبارها وسيلة لإعادة صياغة الثقافة السياسية التي سادت في سورية منذ العام 1970، وخلق ثقافة مدنية جديدة ومتحضرة للعبور بالمجتمع من حالة التخلف إلى التقدم.
وهنا تبرز أهمية المجتمع المدني، باعتباره البديل عن المجتمع الذي تهيمن فيه سلطة الدولة الاستبدادية الشمولية، والبديل عن النظام القبلي والمجتمع الطائفي الذي تكون فيه الكلمة العليا لشيخ القبيلة أو رئيس الطائفة.
وبمنظور أوسع، فإنّ المجتمع المدني هو الفضاء الذي يستطيع المواطنون المشاركة فيه بشكل متزايد في مرحلة التحول إلى مجتمع ديمقراطي، من خلال العمل التطوعي، بعد أن عوّدت الدولة الأمنية المواطنين السوريين على اختيار كل شيء لهم، بدءاً من العمل إلى التعليم مروراً بطريقة الحياة اليومية. أي أنّ المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية تحتاج إلى تدعيم ثقافة العمل التطوعي من كافة مؤسسات الدولة، بحيث يمكن قبولها والاستفادة من مردوديتها.
إنّ التضحيات الكبيرة التي قدمها السوريون، شهداء وجرحى ومعتقلين ونازحين ولاجئين، تستدعي من الجميع العمل بجد وإخلاص للتأسيس لحكم قائم على الشفافية والوضوح، ووضع المسؤولية بأيد كريمة ونفوس لا تحمل في مواقفها تناقضات بائسة ولا في تاريخها ما تتحرج منه أو تخشى من تعرّف الناس عليه.وهكذا، يخطئ من يعتقد أنّ التحول نحو الديمقراطية في سورية هو مجرد مخطط ذهني سهل التنفيذ، ويخطئ إن ظن أنّ هذه الطريق لن تكتنفها صعوبات ومشكلات عديدة.
مما يعني أنّ الانتقال لا يتحقق بمجرد إزاحة الاستبداد وتوفير بعض الحريات والقيام بانتخابات، بل هو عملية تاريخية تحتاج لزمن غير قصير، وبديهي أن يشهد في بعض المحطات إرباكات وصراعات على السلطة وإصرار قوى معينة على تخريب الثورة وإيقافها والارتداد عنها.