عمر الشيخ إبراهيم
العربي الجديد:24/1/2022
تعدّ الجزيرة السورية (الرقة – دير الزور – الحسكة) من أهم المناطق السورية، نظراً إلى ما تتمتع به من ثروات متنوعة، كالطاقة والغاز، والقمح الذي يمثل أمنا غذائيا للشعب السوري، إضافة إلى مرور نهري الفرات ودجلة فيها، وهما شريانا حياة حقيقيان للسكان، سواء لمشروعات الري والشرب أو توليد الطاقة الكهربائية، خصوصا لمدينة حلب، الصناعية والتجارية، وكذلك موقعها الاستراتيجي المحاذي لتركيا والعراق، والمقلق لحكومتيهما.
كما أن مرور خط الإمداد العسكري والعقائدي الممتد من طهران إلى بغداد فدمشق، وصولا إلى ضاحية بيروت الجنوبية، جعلها ساحة نفوذ وصراع كبيرة بين القوى الإقليمية والدولية، بشكل مباشر أو عبر الحلفاء المحليين لكل طرف.العامل الأهم هو التنوع الاجتماعي القومي الطائفي والديني في هذه المنطقة، من عرب، كرد، أيزيديين، شيشان، تركمان، إضافة إلى أكثر من سبع طوائف مسيحية أصيلة في تلك الأرض.
وقد جعل هذا التنوع الجزيرة السورية بقعة اجتماعية جاذبة ومهمة لكل القوى عبر التاريخين، الحديث والقديم، فيما عرفت به ببلاد ما بين النهرين (دجلة والفرات)، ونشأت فيها حضارات عريقة، وكانت ساحة صراع دائمة بين الحضارات المتعاقبة أو المتصارعة.
ولهذا البعد الاجتماعي بالغ الأثر في الصراع في الجزيرة العليا طوال الحقب التاريخية، ولحصر موضوع المقالة هنا بالأحداث الراهنة، يمكن الاعتقاد أن اهتمام القوى الدولية بها جاء لاعتبارات دينية بالدرجة الأولى، وخصوصا للوجود الغربي الأوروبي، وقومي بالنسبة لتركيا والكرد، وطائفي بالنسبة للتنظيمات الراديكالية (الشيعية والسنية).
ربما هذا الدافع مستتر وغير ظاهر في الحراك المحلي والإقليمي والدولي، ولكنه أحد المحرّكات الرئيسية لهذه القوى باعتقاد كاتب المقال.
كان وجود المسيحيين في هذا الشرق هاجسا كبيرا لجميع القوى، لاعتباراتٍ عديدة لا يتسنّى ذكرها جميعاً هنا، أهمها الدور الحضاري والإنساني للمسيحية، وتمسّك مسيحيي الشرق بعروبتهم وانتمائهم لهذه الأرض، على الرغم مما قدّم لهم من إغراءات ومزايا لهجرها باتجاه “العالم المسيحي”، ومساهمتهم كذلك في النهضة العربية والدور البارز في التماسك المجتمعي وخطابهم المنحاز عبر التاريخ إلى السلام والوئام بين مكونات المنطقة، إضافة إلى ما تمثله من غنى ثقافي فريد من نوعه، يكفي أن نستذكر كيف عملت الحضارات المتعاقبة على ترهيب المسيحيين أو ترغيبهم لطردهم من مناطق سيطرتها أو استمالتهم لجانبها، لندرك أهمية وجودهم.
يدّعي بعضهم أن سنوات الثورة السورية وما تخللها من حروب وتبادل السيطرة بين قوى راديكالية طائفية وقومية دفعت عشرات الآلاف من المسيحيين إلى الهجرة واللجوء إلى الغرب، ولكن ينسى هؤلاء أن هجرة المسيحيين من الجزيرة السورية لم تتوقف طوال فترة حكم حزب البعث.
وتفيد الإحصائيات بأنها تعدّت مئات الآلاف طوال تلك العقود، في وقت كانت سورية تنعم بالسلام والأمان والتماسك المجتمعي كما روّج النظام، فلماذا هاجر هؤلاء إذاً؟صحيحٌ أن المسيحيين مثلهم مثل باقي شركائهم في الوطن، هاجروا ولجأوا خلال العشرية الثورية الدموية الأخيرة، ولكن هذا جاء في سياق عام شمل جميع السوريين، بينما لم يكن كذلك طوال عقود حكم الأسد الأب والابن الأولى.
يعتقد الكاتب أن سياسات الدول الكبرى كانت تهدف إلى إفراغ الجزيرة السورية من السوريين المسيحيين، وكانت السياسات نفسها تعمل على إفراغ الشرق العربي بأكمله منهم، منذ الاحتلالات المتعاقبة، وصولا إلى ما حدث في العراق أو لبنان إبّان الحروب الأهلية المتعاقبة والاجتياح الصهيوني له لاحقا، وقرأ نظام الأسد الأب ثم الابن هذه الرغبة مع محاولتهما الحفاظ على وجود مسيحي “تزييني” لصورته، ضمن حيز مصالحه الضيقة، ليكون مفرغاً من الفعالية السياسية والاجتماعية والوطنية التي لعبها المسيحي في كل الاستحقاقات الوطنية السورية، والأمثلة كثيرة عليها.
وبالتالي كانت ورقة المسيحيين في الجزيرة السورية يتلقفها جميع الفاعلين المحليين الدوليين، للحصول على حلفاء ومكتسبات تخدم أغراض كل منهم.
ويعدّ التنوّع القومي كذلك محرّكا رئيسيا في المنطقة لكل من قوات الحماية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، النسخة السورية لحزب العمال الكوردستاني، ولتركيا (القومية) وحلفائها المحليين من تركمان سوريين وفصائل المعارضة السورية.
والصراع هنا ليس أيديولوجيا، وإن كان الحزب الحاكم في تركيا ذا خلفية دينية، ولكن الحقيقة أن أسس القومية في الدولة التركية أقوى من البعد الديني، ويكفي أن تجد أن الرئيس أردوغان (السني) يقف سنويا أمام ضريح أتاتورك (القومي) ليحييه، حتى تعرف المعادلة وتفهم المحرّكات، مع عدم إغفال أهمية العامل العقائدي لسياسة الحزب الحاكم واستراتيجيته في ملفات المنطقة العربية.
ولدى إيران كذلك اهتمام كبير بالجزيرة السورية، كون طريق إمدادها إلى دمشق وبيروت يمر عبر تلك المنطقة، وهو طريق حيوي واستراتيجي، وربما مصيري في ظل الظروف التي يمر بها المشروع الإيراني، ولكن أيضا لديها بعد عقائدي، فقد نشطت إيران، عبر أذرعها الثقافية، الحسينيات وغيرها في المنطقة، خصوصا بعد احتلال بغداد.
كما أنه زاد بعد حرب 2006 في لبنان. وعمل النظام الأسدي على إهمال تلك المنطقة، وأصدر قرارا كان منعطفا كبيرا لحياة السكان هناك، نصّ على تحريم زراعة آلاف الهكتارات في منطقة ريف الحسكة الجنوبي، وصولا إلى حدود دير الزور والرقة الإدارية، بحجّة الرعي والحفاظ على الثروة الحيوانية، أصبح بموجبه عشرات آلاف السكان المحليين من دون وارد مادي، كون الزراعة مصدر رزقهم الرئيسي، وهذا أدّى إلى انتقال عشرات الآلاف إلى محافظات أخرى للعمل في مزارع ومداجن بحثا عن مصدر رزق لعائلاتهم.
وهنا تدخلت الحسينيات (التبشيرية) للنظام الإيراني، وقدمت بعض الدعم من سلل غذائية شهرية ورواتب لمن بادر إلى التشيع وتبني الخطاب العقائدي للنظام الإيراني وذراعه حزب الله، بتسهيل كامل من نظام الأسد، وهو ما أحدث احتقانا كبيرا، خصوصا لدى أهالي ريف دير الزور، المعروف عنهم غيرتهم السنية والعروبية، فكان لهذا العامل المزدوج أثره الكبير في ما بعد لما حصل في المنطقة من ظهور التيارات الراديكالية التي استثمرته بشكل كبير لتوسيع حاضنتها.
ولاهتمام جبهة النصرة، ومن ثم ما تسمّى دولة الخلافة الإسلامية (داعش)، بالمنطقة الممتدّة من الموصل وصحراء الأنبار (الجزيرة الفراتية)، وصولا إلى أطراف حلب الإدارية (غرب الفرات)، جذور تاريخية، عمل عليها أبو مصعب الزرقاوي، حين انتقاله من أفغانستان إلى العراق. ويبدو، من تحرّكاته في جغرافية محدّدة ذات غالبية سنية، أنه كان ينشط لإعادة إحياء الدولة الزنكية الممتدة من (أتابكيتا) الموصل إلى حلب، وهو ما عملت عليه لاحقا جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي استطاع السيطرة على أهم مدينتين فيها، الموصل والرّقة، إضافة إلى مساحات كبيرة ومهمة من ريف حلب الشرقي وصولا إلى أحياء داخل المدينة.
استنهضت قوات الحماية (الكردية)، النسخة السورية لحزب العمال الكردستاني، الخطاب القومي لدى شارعها في مواجهة النفوذ التركي وفصائل المعارضة المدعومة من تركيا، على اعتبار أن جلها من عناصر عربية وتركمانية (مع الإشارة إلى وجود عناصر كردية محدودة)، وكذلك في وجه التنظيمات الراديكالية التي تقول قوات الحماية إنها تخدم أجندة تركيا في المنطقة، واستطاعت كسب ثقة واشنطن في قدرتها على التنظيم والحشد، وكذلك التحكم والسيطرة، وتكتيكات القتال، خصوصا في وجه “داعش” وجبهة النصرة، واستثمرت هذه القوات، بشكل كبير، خطاب هذين الاستئصالي بوجه بقية المكونات غير المسلمة، وخصوصا المسيحيين والأيزيديين في سنجار، وعزّزت ذلك الاستثمار بجرائم تم ارتكابها في قرى مسيحية في ريف تل تمر ورأس العين والحسكة، وخصوصا الآشورية منها، لتدق ناقوس الخطر الوجودي للمسيحيين في الجزيرة، إضافة، بطبيعة الحال، إلى مصير السوريين الكرد والأيزيديين، وقد دفع هذا الأمر واشنطن وغيرها إلى الاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في محاربة الإرهاب، وتوج هذا التحالف والتنسيق بطرد التنظيم من الرقة والقضاء على آخر معاقله في الباغوز، والتي كشف تحقيق لصحيفة نيويورك تايمز عمّا أسماها جريمة حرب، ارتكبتها القوات الجوية الأميركية في منطقة بالقرب من الباغوز في تلك المعركة.
نتج عن هذه المعارك مع “داعش” اعتقال آلاف ممن قيل إنهم كانوا ينتمون للتنظيم، وتم وضعهم في سجون خاصة في الحسكة والرقة. وبطبيعة الحال، لا يستطيع أحد القول إن هؤلاء جميعا خضعوا لتحقيق دقيق وموضوعي قبل اعتقالهم، لأن عددهم يفوق قدرة أي قوى أمنية أو سلطة قضائية، وكذلك لا يستطيع أحد الجزم ببراءتهم.
وفي المحصلة، وجدت “قسد” نفسها أمام مسؤولية كبيرة إزاء هؤلاء لوجستيًا وأمنيًا، وحاولت إزاحة جزء من هذا العبء، بإطلاق سراح الآلاف منهم، من خلال وساطات عشائرية قام بها شيوخ القبائل، ولكن خلايا التنظيم بدأت تنشط بين الفترة والأخرى في تلك المنطقة، وربما بدأت حاضنته بالتوسّع، استناداً إلى بعض السلوكيات والاستراتيجيات التي قامت بها عناصر كردية ضمن “قسد” في مناطق عربية خالصة جنوب الحسكة وصولا إلى ريف دير الزور والرّقة، ما دفع بعضهم إلى الانضمام لتلك الخلايا.
ومع فشل الإدارة الذاتية، حاليا، في تحسين مستوى الخدمات في مناطق سيطرتها في الجزيرة السورية، على الرغم من توفر الثروات والموارد، ومع تعنّتها في إيجاد صيغة توافق مع المجلس الوطني الكردي، ومع تململ “الشارع الجزراوي” من انتشار الفساد والمحسوبية وتردّي الحالة المعيشية، إضافة إلى عدم ترسيخ سلطة محلية خدمية منبثقة عن انتخابات نزيهة وحرّة، واحتكار السلطة من دون شراكة حقيقية وفاعلة لمكونات المنطقة الأخرى، ووسط قلق من تخفيض عدد القوات الأميركية أو رغبتها بترك المنطقة بعد مداولات في الكونغرس إزاء تخفيض الميزانية العسكرية لتلك القوات في المنطقة، وجاء هذا التفجير عبر سيارة مفخّخة، استهدف سجن الصناعة المخصص للمتهمين بأنهم دواعش، أدى إلى نشوب معركة في أحياء الحسكة الجنوبية والمحيطة بالسجن بين الخلايا المهاجمة وقوات الحماية معزّزة بالطيران الأميركي، وتردّد أن عشرات فرّوا من السجن، وسط حالة ذعر ونزوح للأهالي.
وفي أي ظرف يجد فيه المدني نفسه مخيرا بين العيش في حالة من السلام والأمان والعيش بواقع فساد وغلاء، سيميل فطريا إلى القبول بالثانية خوفا من الأولى. وهنا تتبدل الأولويات وتتأجل الطلبات وتخمد جذوة النزق الشعبي حيال الإدارة، كما تترسّخ شرعية البندقية واحتكار مكافحة الإرهاب لطرف فشل، على ما يبدو، في تقديم الخدمات وإرساء أقل مستوى من الحياة الديمقراطية التي يؤمن بها، بينما ينجح، إلى حد ما، في الميدان والقتال والإمساك بزمام الأمن في مناطقه.