حازم صاغية/الشرق الأوسط
تقوم النظريّة الإيرانيّة، المعلنة مرّة والضمنيّة مرّات، على أنّ طهران، منذ ثورة 1979، تدعم العرب لتحرير فلسطين وإزالة إسرائيل، وأنّها هي التي أعادت الحياة لهذا المشروع بعد أن تخلّى عنه العرب تباعاً، ابتداءً باتفاقات كامب ديفيد المصريّة – الإسرائيليّة في 1978 و1979، قبل أن تتولّى معاهدة أوسلو الفلسطينيّة – الإسرائيليّة، في 1993، تتويج ذاك التخلّي.
«خيانة» مصر الساداتيّة ثمّ «خيانة» منظّمة التحرير الفلسطينيّة العرفاتيّة ترسمان إذن الوجهة النقيض للوجهة الإيرانيّة التي لا تساوم على الحقوق العربيّة ولا تفرّط فيها.ما يُستنتَج من هذه الرواية أنّ طهران مثّلت مصالح العرب أفضل منهم، وبالنيابة عنهم، إن لم يكن رغماً، أو غصباً، عنهم، وأنّ ثورتها أنهت، لهذا الغرض، العلاقات الدبلوماسيّة مع إسرائيل، ثمّ أسّست «حزب الله» لمقاومتها ومقاومة احتلالها، كما غمرت لبنان بالصواريخ وأدوات الموت، وهذا قبل أن ينطلق مشروع نووي لا يحدوه إلا هاجس كسر الاحتكار الإسرائيلي.
وفكرة «التمثيل» و«النيابة عن…»، سبق أن أخضعها الفكر السياسي لكثير من النقد الذي تركّزَ معظمه على «تمثيل» الأحزاب الشيوعيّة للطبقات العاملة بوصفه أوضح النماذج. فتلك الأحزاب، وفق سرديّاتها، تعرف مصلحة العمّال أكثر مما يعرفه العمّال أنفسهم، لأنّهم لا يملكون إلا وعياً اقتصادياً ومطلبيّاً بسيطاً. لهذا فإنّ الأحزاب المذكورة هي التي تنقل إلى العمّال الوعي، كما تسيّسهم وتنظّمهم ثمّ تقودهم لإسقاط النظام القائم الذي يستغلّهم، ولإبداله بنظام يكون الحكم فيه للعمّال.
وكثيراً ما اختُبرت هذه النظريّة، في ألمانيا الشرقيّة وتشيكوسلوفاكيا السابقتين، كما في هنغاريا وبولندا وسواهما من بلدان حكمها الحزب الشيوعي باسم الطبقة العاملة، فمارس فيها الطرف الذي يمثِّل قهره ونهبه للطرف الذي يُفتَرض أنّه يُمثَّل.تلك النظريّة كاذبة في التجربة، إلا أنّها، قبل هذا وبعده، شديدة الأبويّة ومُهينة لأولئك «القاصرين» الذين هم بحاجة لمن يعرّفهم بمصالحهم ثمّ يقودهم إلى تحقيقها.
وهو التشخيص إيّاه الذي يصحّ في العرب وفق السرديّة الإيرانيّة بقدر ما يصحّ في الطبقات العاملة وفق السرديّة الشيوعيّة.والحال أنّ العكس هو الصحيح دائماً: فالعرب هم الذين يُراد لهم أن يدعموا إيران في معركتها ضدّ العقوبات، وفي طموحها لانتزاع موقع إقليمي تحول دونه العقوبات تلك.
ذاك أنّ الجمهوريّة الإيرانيّة، وقبل دفعات العقوبات التي تعرّضت لها، في 1995، ردّاً على انكشاف مشروعها النوويّ، ثمّ في 2018 و2020، مع انهيار الاتفاق النووي، كانت قد وُلدت في العقوبات التي اعتمدت بُعيد قيام الثورة تماماً، أي مع الاستيلاء على السفارة الأميركيّة في طهران واحتجاز موظّفيها ودبلوماسييها.
فالتعرّض للعقوبات والعمل لإنهائها هما، والحال هذه، عنصر مؤسّس للنظام وليسا مجرّد سمة فرعيّة أو ثانويّة من سِماته. إنّهما تالياً العنصر الذي يملي السياسات الخارجيّة لطهران ويستدعي تكييف منطقة الشرق الأوسط برمّتها بما يخدم هذا الغرض.
والتكييف المقصود هو بالضبط ما تطلّب ويتطلّب إسناد نظام بشّار الأسد في سوريّا، وإبقاء العراق مساحة جغرافيّة هشّة ومعطّلة، على ما نرى اليوم بوضوح ساطع، وإفقار لبنان وإحكام ربطه، عبر «حزب الله»، بالفلك الإيرانيّ.
ولأنّ الموضوع الإسرائيلي يبقى أهمّ ذرائع هذا المشروع، بات مطلوباً التمسّك بأشدّ الأطروحات راديكاليّة فيما خصّ فلسطين وقضيّتها، وإلا فقد السلوك والزعم الإيرانيّان كلّ مبرّرات وجودهما.
وأكثر ما تذكّر به هذه العلاقة ما كان قائماً بين بعض بلدان العالم العربي والاتّحاد السوفياتي: الثاني يقدّم السلاح للأوّل فيما الأوّل يمنح الثاني مدى جغرافيّاً واستراتيجيّاً عريضاً بما فيه الحضور العسكري المباشر وإنشاء القواعد.
وبطبيعة الحال لم يكن من الممكن ألا يدعم السوفيات العربَ في حروبهم مع إسرائيل، لأنّ هذا الدعم هو ذريعة العلاقة العربيّة – السوفياتيّة، لكنّ انتصار العرب في هذه الحروب لم يكن ممكناً أيضاً.
فالاتّحاد السوفياتيّ، بتركيبه وقدراته وطبيعة علاقته بالعالم، كان في وسعه المشاغبة على أوضاع قائمة من دون القدرة على إطلاق عمليّات مديدة وصعبة ومكلفة تنتهي بإلحاق الهزيمة بإسرائيل.
وها هي روسيا البوتينيّة ترث عن الاتّحاد السوفياتي هذا الاختصاص، على ما يبدو واضحاً في سوريّا: ضرب الثورة والعجز عن بناء بديل من نظام الأسد يكون أشدّ تماسكاً وقابليّة للحياة.
بالمعنى نفسه فإنّ نظاماً مهموماً برفع العقوبات عنه يستطيع أن يحوّل جواره إلى ورقة تفاوضيّة أو إلى قاع صفصف، لكنّه لا يستطيع أن يسير بهذا الجوار إلى ما يقول إنّه هدف الطرفين الجامع. مثل هذه القدرة تستدعي امتلاك فائض قوّة لا يملكه المطوّق بالعقوبات.