عبدالله أمين الحلاق /موقع تلفزيون سوريا:16/7/2021
قد يبدو طرح هذا الموضوع ساذجاً جداً، تبعاً لأحوال سوريا اليوم، وتبعاً لكونها بلداً مفتوحاً ليس على مجرد التدخلات فقط، بل على الوجود العسكري المباشر والفعلي لأكثر من دولة فيها، من شمالها إلى جنوبها.غير أن الوجود العسكري لقوّات هذه الدولة أو تلك، يرسخ الإشكالية ويحفّز على التفكير المركّب، بدل الركون إلى الأجوبة السهلة والبسيطة لمسائل بالغة التعقيد، ومن بين تلك المسائل الموقع التاريخي لسؤال “الخارج” في “فكر” وأدبيات وخطابات المعارضة.
تبلورَ سؤال التدخل العسكري بوضوح، وانتظم السجال حوله في صفوف المعارضة السورية منذ احتلال العراق عام 2003، وما طفا على السطح يومها من احتمالات لتدخّل عسكري مشابه في سوريا. وكان التفكير في هذه القضية ينوس بين تأييد مطلق لتدخل عسكري كامل يطيح ببشار الأسد ونظامه، على غرار ما حصل ضد صدام حسين، وبين رافض له بالمطلق، تحت راية “الوطن” و”معاداة الإمبريالية”، في مزايدة معارِضة واضحة على النظام “الوطني!”.
لا يختصر هذان الموقفان كل المواقف حينذاك، وحتى اليوم، لكنهما مثالان واضحان على نمط من التفكير في “الثقافة السياسية” السورية، كان وما يزال مستمراً، بدرجات متفاوتة، حتى اليوم.فإذا كان التدخل العسكري الأميركي- البريطاني وإطاحته بنظام صدام، هو الذي فجّر المجتمع العراقي، المفخخ أصلاً، في مواجهة بعضه بعضا، فإن هذا لم يتوفر في الحالة السورية.
ويمكن القول إن حكم البعث في البلدين الجارين قد كبتَ كل التناقضات ومنعها من التعبير عن نفسها، وعزّزها ولعبَ عليها، بدلاً من تذليلها في مؤسسات دستورية لم توجد أصلاً. هكذا، كان أيُ حدث كبير يزعزع أياً من النظامين، من الداخل أو من الخارج، كفيلاً بإنتاج نفس الحالة.
الثورة السورية كانت فعلاً داخلياً صرفاً، وهي رفعت الغطاء بدورها عن المجتمع السوري الذي عبّر عن نفسه أخيراً، وعن تطلعاته وآماله، وأيضاً عن موروثه وثقافاته بسلبها وإيجابها، كما رفعت الغطاء عن النظام وشعاراته التي فعلت بالسوريين ما فعلته.
وهي أظهرت أيضاً دور العامل الثقافي والديني التاريخي، وكيفية تحوله إلى “دينامو” مستمر للحروب بين أبناء البلد الواحد في بلد لم يقوَ وترسخ فيه “الدولة” بالمعنى الحديث، ولم يخضع لما خضعت له بلدان كثيرة في العالم.
انكسر “تابو” رفض التدخل الخارجي، بدرجة كبيرة، مع إيغال النظام السوري في القتل وفي ارتكاب الإبادات طوال عشر سنوات، وبدا أن النخب السياسية والثقافية السورية، في معظمها، تعيش “مرحلة انتقالية” فيما خص التفكير في هذه المسألة، وخصوصاً النخب الآتية من إيديولوجيات القرن العشرين ومراحله وصراعاته وسجالاته. إلى ذلك، لم يبقَ الأمر نخبوياً صرفاً، فأسماء أيام الجمعة التي كانت تطالب بالتدخل وبالحظر الجوي في بدايات الثورة، وما يكتب وينشر على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحافة من كتابات تتناول ما تراه “تخاذلاً للمجتمع الدولي” و”مؤامرة غربية ضد الثورة السورية”، ثم الحراك السياسي المعارض في التواصل مع عواصم القرار في الغرب (بصرف النظر عن تقييم أداء المعارضة على هذا الصعيد).. كل ذلك جعل “التابو” التاريخي يتحطم، ومَـرْكزَ الغرب في وعي السوريين، خصوصاً أن حلفاء الأسد المباشرين كانوا وما يزالون “شرقاً”، إن جاز التعبير والوصف.
غير أن هذا التبدل في أحوال وأنماط التفكير في السياسة والثقافة السوريتَين، بفعل الثورة، يحمل إشارة قوية إلى الدور الذي لعبته الأخيرة في خلخلة العديد من اليقينيات السياسية (وثمة ممانعون ناقدون أو معارضون لأنظمة الممانعة، بالمناسبة)، لكنه، في الآن نفسه، يحيل التعامل مع “الخارج” أو “الغرب” إلى حالة إجرائية تقنية، يتم توسّلها والرهان عليها بهدف تنفيذ “مهمة مطلوبة من هذا الغرب” هي “تحريرنا”، من دون التخلي عن معاداته بالمطلق على أرضية إيديولوجية، قومية أحياناً، ويسارية أرثوذكسية أحياناً اخرى، وإسلامية في أحايين أكثر.
وكان الدكتور غسان سلامة قد لاحظ ذات مرة، في التسعينيات، في زمن حصار العراق ثم العمل العسكري الغربي ضد نظام ميلوسوفيتش في يوغوسلافيا، أن “المشكلة الراهنة للشعوب مع “الاستعمار” هي أنه لا يتدخل، بعدما كانت المشكلة معه قبلاً أنه يتدخّل”.
وغني عن القول، انطلاقاً من كلام سلامة، أن الألم السوري كان كفيلاً بدفن الشعارات الرنانة التي كان معارضون سوريون يرددونها قبل الثورة وبعدها، من مثل “نار الداخل ولا جنة الخارج” وغير ذلك. فلن يكون التدخل العسكري الخارجي ضد النظام، لو أنه حصل، جنّة بالطبع، إلا أن المعيار هنا هو الجحيم الأسدي وليست “مواقف الرجل الأبيض من الشرق” على ما تقول تلك العبارة الممانِعة الشهيرة.انتهت احتمالات التدخل العسكري الغربي ضد الأسد على كل حال، بعكس ما حصل ضد أنظمة غيره في العالم، لكن تبقى أوراق الضغط السياسي عليه اليوم، ممثلة بالموقف الأميركي والأوروبي الرافض إعادة تأهيله أو الاعتراف به، وإعادة إعماره. في هذا ما ينقل الموضوع إلى الملعبَين الأوروبي والأميركي، منعاً لتحول النقد أعلاه إلى “جلدٍ للذات” فقط.
فبعيداً عن عبارات “التخاذل” و”الخذلان” و”المؤامرة” و”خيانة الثورة من قبل العالم” وغير ذلك مما تحفل به الكتابات السورية اليوم وسابقاً، يبقى صحيحاً أن عدم التدخل الغربي، كائناً ما كان شكل هذا التدخل، يطرح أسئلة نظام العلاقات الدولية اليوم، ومسائل حقوق الإنسان والديمقراطية من باب تراجع كونيتها المفترضة، وتراجع “العالم” عن “وعود” كثيرة سابقة رافقت التغيرات الكبرى فيه، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وصولاً إلى 11 أيلول واحتلال العراق، ثم الثورات العربية، وهو ما يمكن الاستفاضة فيه مطولاً، وكُتب عنه كثير منذ سنوات وحتى اليوم بطبيعة الحال، أضف أن السوريين ليسوا الضحايا الوحيدين لكل ذلك على مستوى العالم، تاريخياً واليوم، مع تفاوت في “التجارب”
بالطبع..خلاصة القول إن الانزياحات الكبرى التي شهدتها سوريا، ديموغرافياً وترابياً وسياسياً وعسكرياً، رافقتها انزياحات كبرى في التفكير، كما رافقها قطع نسبي مع موروث سياسي وثقافي مديد في العلاقة مع العالم والانخراط فيه، وخصوصاً عبر كثير من اللاجئين المقيمين في الغرب وبعض الدارسين في جامعاته ومعاهده من هؤلاء، وهو ما قد يثمر نمطاً جديداً في التفكير والممارسة بعد زمن قد يطول، كما هي العادة..