عنب بلدي: 16/05/2021
بالمثل القائل “مد لحافك على قد رجليك”، يتخذ عبد الفتاح النجم، وهو موظف في مدينة الرقة شمال شرقي سوريا، أسلوب معيشة له ولعائلته، في بقعة جغرافية تتركز فيها أغلب حقول النفط في البلاد، وتُعد من أغنى المناطق بالثروات الزراعية والحيوانية والمائية.وعلى الرغم من التنوع والغنى بالثروات الذي تتميز به المنطقة، لم يستثنِ تردي الأوضاع المعيشية في عموم سوريا عبد الفتاح النجم وسكان المناطق الشمالية الشرقية الخاضعة لنفوذ “الإدارة الذاتية” الجهة التي تدير المنطقة وتحدد شكل معيشة الأهالي فيها، عبر القرارات المالية والاقتصادية التي تتبعها.فمنذ تأسيسها في عام 2014، لم تكتفِ “الإدارة الذاتية” بفرض سيطرتها في المجال الأمني والعسكري على مناطق شمال شرقي سوريا، وامتدت سيطرتها لتشمل القطاع الاقتصادي والمالي وإدارة الثروات الموجودة في المناطق الخاضعة لها
عبد الفتاح (35 عامًا) أوضح لعنب بلدي، أن الراتب الذي يتقاضاه لا يتناسب أبدًا مع احتياجات أسرته المكونة من خمسة أفراد مع زوجته، لذلك يضطر كثيرًا لتجاهل بعض احتياجات العائلة، خاصة مع حالة الغلاء المنتشرة.
موازنة عامة بعملتينشهد نيسان الماضي قرارات صادرة عن “هيئة المالية” التابعة لـ”الإدارة الذاتية” لشمالي وشرقي سوريا فيما يتعلق بإقرار قانون الضرائب والتصديق على الموازنة العامة.وفي 28 من نيسان الماضي، أقر المجلس العام في “الإدارة الذاتية” اعتمادات الموازنة العامة للسنة المالية 2021، بمبلغ 498 مليارًا و772 مليونًا و350 ألف ليرة سورية (171 مليونًا و599 ألفًا و150 دولارًا أمريكيًا).وتقدر إيرادات الموازنة العامة في 2021 بـ206 مليارات و540 مليونًا و950 ألف ليرة سورية (244 مليونًا و575 ألف دولار).وحدد المجلس العام لـ”الإدارة” ثلاثة أقسام لموازنة 2021، الأول هو الموازنة الجارية (التشغيلية)، التي تتألف من ثلاثة مقاطع، والموازنة المركزية (للمجلس العام ومجلس العدالة والمجلس التنفيذي) والموازنة المحلية للإدارات الذاتية والمدنية (المجالس التشريعية والأقاليم والإدارات الذاتية والمدنية)، والرواتب
رجل يسير أمام مجرى ملوث بانسكاب نفطي بالقرب من قرية الصقيرية في ريف الرميلان في محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا (دليل سليمان/AFP) “اقتصاد نقدي بدائي”وقرر المجلس إلزام جميع الجهات العامة بتحويل إيراداتها إلى صندوق الخزينة العامة لشمالي وشرقي سوريا.وتكاد تكون البيانات عن إيرادات الميزانية الخاصة بـ”الإدارة الذاتية” غائبة، كما يصعب تحديدًا تعقب كيفية تحصيلها وإنفاقها نظرًا إلى غياب الشفافية حول هذا الموضوع من ناحية، والغياب شبه التام للقطاع المصرفي في المنطقة من ناحية أخرى، بحسب دراسة بعنوان “الاقتصاد السياسي للإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا” في 21 من كانون الثاني 2020، للباحث سنان حتاحت.
وذكرت الدراسة أن المنطقة قائمة على مجرد اقتصاد نقدي بدائي، على الرغم من وجود المصارف الحكومية، وتُمول “الإدارة الذاتية” بواسطة مبيعات النفط لحكومة إقليم كردستان العراق والنظام السوري والسكان المحليين، وضريبة الدخل ورسومه، والرسوم على المواد والبضائع المستوردة.
هيئاتها هي: “الاقتصاد والزراعة، الصحة والبيئة، المالية، التربية والتعليم، الداخلية، الشؤون الاجتماعية والعمل، المرأة، الثقافة، الشباب والرياضة، الإدارة المحلية”.أما المكاتب فهي: “الدفاع، الأديان والمعتقدات، الاستشارة، الإعلام، النفط والثروات الباطنية، التنمية والتخطيط، الشؤون الإنسانية”.أما الدوائر فاقتصرت على واحدة هي “دائرة العلاقات الخارجية”
قانون ضريبي جديد
وتساعد الضريبة على زيادة العدالة الاجتماعية، باعتبار أنها تُفرض على أصحاب الدخول المرتفعة لتُوزع على أصحاب الدخول المنخفضة.وعلى الرغم من أن الضرائب المباشرة تعتبر أكثر قربًا من تحقيق العدالة الاجتماعية بالمقارنة بالضرائب غير المباشرة، قد يكون لها أثر سلبي على تحقيق العدالة خاصة في الدول النامية.إذ إن أصحاب الدخول الضعيفة وخاصة العمال والموظفين، لا تكون لديهم المقدرة على التهرب من دفع الضريبة أو على الأقل محاولة تجنبها، أما أصحاب الدخول المرتفعة مثل رجال الأعمال وأصحاب المهن والتجار، فإن فرص التهرب الضريبي لديهم تكون مرتفعة.ومع انخفاض قيمة الليرة السورية جراء التدهورات المتتالية التي شهدتها خلال السنتين الماضيتين قبل أن يعود سعرها للاستقرار بعد توحيد سعر الصرف، انخفضت القدرة الشرائية لدخول المواطنين في معظم المناطق السورية على اختلاف جهات السيطرة.
وأصبحت الرواتب والأجور لا تتناسب مع مستويات الأسعار وارتفاعاتها غير المسبوقة وخاصة للمواد الأساسية.كما أثرت التداعيات الاقتصادية لتفشي جائحة فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) في سوريا، والإجراءات التي تتبعها السلطات للحد من انتشارها من إغلاقات متكررة للمعابر الداخلية والأسواق وفرض حظر التجول، على أعمال المواطنين وخاصة في مناطق نفوذ “الإدارة الذاتية”
غياب الشفافية يخفي إنتاج النفط في منطقة الجزيرةتسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) منذ نحو تسع سنوات على مصادر النفط في شمال شرقي سوريا، وتبيعه لثلاث وجهات رئيسة، هي إقليم كردستان العراق ومناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة فصائل المعارضة السورية.ويشتري النظام النفط من “قسد” عبر شركة “القاطرجي”، أما مناطق المعارضة فتحصل عليه عبر شركتي “الروضة” و”الحزواني”، بالإضافة إلى ما تستهلكه السوق المحلية، وبعض الكميات التي تهرّب إلى شمالي العراق
ومنذ خروج حقول النفط في شمال شرقي سوريا عن سيطرة حكومة النظام السوري ودخولها في نطاق سيطرة “قسد”، لا تُعرف بشكل دقيق أوضاعها من جهة الإنتاج وحجم الأضرار التي لحقت بها.لكن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” قدّرت في تقرير لها صادر في أيلول 2019، أن الحقول النفطية الخاضعة لسيطرة “قسد” تنتج ما يقارب 14 ألف برميل يوميًا.واستنادًا إلى شهادات حصلت عليها الشبكة الحقوقية، فإن “قسد” تبيع برميل النفط الخام للنظام السوري بقرابة 30 دولارًا، أي بعائد يومي يقدر بـ420 ألف دولار، وبعائد شهري يقدر بـ12 مليونًا و600 ألف دولار، وبعائد سنوي يقدر بـ378 مليون دولار، باستثناء عائدات الغاز.
وأشارت دراسة الباحث سنان حتاحت إلى أن أرقام الإنتاج النفطي من حقول شمال شرقي سوريا غير مؤكدة بسبب غياب الشفافية المتعمد، ومستوى السرية المرتفع الذي تفرضه “الإدارة الذاتية”، كما أن المعلومات الرسمية حول كيفية إنفاق عائدات النفط غير متوفرة.وبحسب الدراسة، لم تكشف “الإدارة” عن لائحة زبائنها (مشترو النفط) بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على قطاع النفط السوري العام.وفي 30 من تموز 2020، وقّع قائد “قسد”، مظلوم عبدي، اتفاقية مع شركة نفط أمريكية من أجل تحديث آبار النفط التي تسيطر عليها القوات بدعم الولايات المتحدة الأمريكية في شمال شرقي سوريا.التجارة شريان حياة لـ”الإدارة الذاتية”تعتمد “الإدارة الذاتية” على التجارة الخارجية مع العراق وتبادل السلع مع مناطق نفوذ قوات النظام السوري ومناطق سيطرة المعارضة عبر عدد كبير من المعابر الرسمية وغير الرسمية، كمورد اقتصادي أساسي
وقال التقرير، إن الحرب تسببت بتراجع كبير في الروابط التقليدية بين المراكز الاقتصادية المحلية، فالتجارة عبر النهر كانت “مزدهرة” في مدينة دير الزور، لكنها الآن في حدها الأدنى.وبدلًا من ذلك، أُعيد توجيه هذا النشاط نحو إقليم كردستان العراق، ما أرغم “قسد” على التعامل مع آليات اقتصادية جديدة وسط معالجة المشكلات الأمنية في الوقت نفسه.
وتُعتبر التجارة عبر الحدود “شريان الحياة الرئيس”، بحسب التقرير، إذ تجمع روابط اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية مهمة إقليم كردستان مع شمال شرقي سوريا.
وأضاف التقرير أن المساعدات العابرة للحدود مهمة، ولكن الوضع شبه المستقل الذي يتمتع به الإقليم لا يوفر الظروف الأفضل لمثل هذه المساعدة من وجهة نظر قانونية، وإذا أرادت الحكومة الاتحادية العراقية الانخراط في ذلك، سيتعيّن عليها إعادة فتح معبر “اليعربية”.وأوضح أن شمال شرقي سوريا سيحتاج في مرحلة ما إلى قاعدة ضريبية، لن يتمكن من توفيرها من دون كسب التأييد المحلي، على الرغم من اختزانه ما يكفي من الموارد الطبيعية لتأمين حاجاته.وهذا هو الطريق الذي يجب أن تسلكه السلطات، والذي يشمل زيادة الرسوم الملموسة للاستيراد والتصدير، وتوسيع رقعة المساعدات عبر الحدود، إذ إن الاعتماد الكامل على معبر “فيشخابور” (سيمالكا) الواصل بين الإقليم وسوريا غير كافٍ، وفقًا للتقرير.ماذا عن التجارة الداخلية؟يستفيد رجال الأعمال المحليون الذين تربطهم صلات بمسؤولين نافذين في حزب “الاتحاد الديمقراطي” من التبادل التجاري مع النظام، والمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وحكومة إقليم كردستان العراق، ويشكلون ركيزة من ركائز النظام الاقتصادي الجديد، بحسب الباحث سنان حتاحت في دراسته بعنوان “الاقتصاد السياسي للإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا”.
وأوضحت الدراسة أن إنفاق “الإدارة الذاتية” يشمل كلًا من الجيش، ومشاريع الإنعاش المبكر، إلى جانب تكلفة إدارة المؤسسات، وإعادة تأهيل البنية التحتية مثل قنوات الرّي والطرق، وصيانة شبكة الكهرباء، إضافة إلى تكلفة إدارة مؤسسات الصحة والتعليم والإدارة المحلية.وتخضع التجربة الاقتصادية الخاصة بـ”الإدارة الذاتية” لضغوط كبيرة، إذ واجهت منظمات التجارة والتخطيط التابعة لها تحديات في تطبيق مُثُلها، وغالبًا ما يُنظر إليها على أنها تتسم بالبيروقراطية الصارمة، وتفتقر إلى الهيكلية والشفافية، وأن المحسوبية والمحاباة تتفشيان فيها.
ولا تزال “الإدارة” تفتقر إلى السيطرة على قطاعات واسعة من الاقتصاد، وهي عرضة للاختراق المستمر من جانب النظام وأفراد “النخبة” القديمة، كما أن المنطقة تعتمد على المصارف الحكومية السورية لتأمين السيولة في السوق، ويعد المصرف المركزي المصدر الأساسي لليرة السورية في السوق، وفقًا للدراسة.وكان الرئيس المشارك لـ”مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، رياض درار، قال في لقاء مع عنب بلدي في 29 من نيسان الماضي، إن “الثروات في شرقي وشمال شرقي سوريا تعاني ذات الحصار الذي تعاني منه بقية السوريين”، مشيرًا إلى وجود شكوى دائمة من الحصار المستمر، وأن إدارة مشاريع اقتصادية تتم وفق “اقتصاد الحرب”.
واعتبر درار أن هذه الإدارة ليست مقدمة لشيء يمكن أن يعتمد عليه على أنه تحقيق استقرار اقتصادي، بل هي إدارة اقتصاد من أجل البقاء.ورفض درار ما يقال حول “سوء توزيع إداري في هذه الأمور”، معتبرًا أن هذا الكلام “تجاوز لحقائق الأمور”، لأن معيشة سكان المنطقة، الذين يتجاوز عددهم أربعة ملايين، ليست بالأمر الهيّن، بحسب تعبيره.