العقيد عبد الجبار العكيدي
ما السر يا حلب، كلما باعد الزمان بيننا اقتربنا منك أكثر، أي تواشج فُعل بيننا، ولا نزال بين وهج تفاصيل التحرير، ولهيب التهجير، نضحك ونبكي، نستذكر ونتحسر، نتعلم ونتطهر، ولا يزال السؤال الأكبر، لماذا لم تُحرر حلب بالكامل؟السؤال السكين الذي يحز أرواحنا كلما مرت الذاكرة يمّ حلب، لماذا هدأت الجبهات، ورسمت حدود سميكة بين المناطق المحررة والمحتلة، لماذا توقفنا عند عتبات الأحياء الغربية، هناك حيث للثوار ذكريات مع ساحات مظاهراتهم الأولى، عنادهم وتحديهم لقبضة الأمن ومصير الاعتقال وهمجية قطعان الشبيحة، لماذا لم يُستكمل التحرير، لم ندخل الأفرع الأمنية التي تجرع فيها شبابنا العذابات، لماذا لم يُقصم ظهر النظام بانتزاع عاصمة سوريا الاقتصادية، فالسيطرة حددت قديما مصير دول وممالك وإمبراطوريات، فكيف بمصير ثورتنا؟مهما تعددت الصياغات، بما فيها من أسى وحسرة بل ولوم وعتاب، وتارة اتهام وتخوين، إلا أن السؤال محق، لا يغادر أذهان الثوار، ولا يفتأ يُطرح علينا، ودارت حوله نقاشات وحوارات، ونبش ونكش في الذاكرة والظروف، وتحميص الحسابات والخيارات، وقد آن الآوان لذلك وقد وصلت في سلسلة مقالات حلب إلى هذا السؤال.
سأضع يدي على الجرح النازف المؤلم دونما ادعاء في قدرتي على وقفه أو تهدئته بمسكن، لكن هي مجرد عرض أضع فيه رأيي، اعتمادا على مشاهداتي، ومعايشتي تلك الفترة، وكنت في أبرز محطاتها قائدا للمجلس العسكري في حلب، وربما القادمات من الأيام تكشف لي ولكم ما هو خفي، ولعله يكون أعظم، أو لا يكون.
غياب التخطيط مقتلنا
الجبهات آنفة الذكر تحتاج في الحد الأدنى إلى 15000 مقاتل لتغطيتها والرباط فيها، في حين كان العدد الفعلي لمقاتلي الجيش الحر حينها لا يتجاوز الألف، ناهيك أن معارك التحرير كانت استنزافا كبيرا للثوار، خسرنا خلالها خيرة المقاتلين النوعيين، وخصوصا المدربين منهم مثل رماة القاذف والقناصات.
والسبب الأول – وفق تصوري- النقص الحاد في العدد والعتاد، يُطرَحُ سؤالٌ معاكسٌ في الحقيقة، هل تلك المعطيات كانت تساعد أصلا في حماية المكتسبات على الأرض والدفاع عنها، أمام ما استقدمه النظام من قوات وعتاد؟، الإجابة من الناحية العسكرية بديهية وهي: لا، وهنا يأتي عاملان كلاهما معنوي غير مادي في الحفاظ على المناطق المحررة، الأول عزيمة الثوار، والثاني أن النظام كان مهزوما من الناحية المعنوية لم يستوعب بعد انكساره الأول، والانكسارات التالية.
السبب الثاني
لاا يمكن والحال هذه فصل أي معطى من المعطيات، ميداني أو عسكري أو سياسي أو ما يتعلق بالحاضنة الاجتماعية للإحاطة بالأسباب الجامعة للإجابة عن السؤال الرئيس، موضوعنا اليوم، ومن هذه الأسباب الانفصام الكامل والهوة العميقة بين المسارين السياسي – المتمثل حينها بالمجلس الوطني- والعسكري.كان هناك مزاج عام عند الثوار أن الدول التي أعلنت دعمها لمطالب الشعب السوري ستدعم دون تردد مضي الثوار قدما في معارك التحرير لإسقاط النظام، انطلاقا من حلب، ومن نافل القول شرح انعكاس ذلك كما أسلفت على تحرير باقي أراضينا الحبيبة من احتلال آل الأسد وحلفائه.
كان واضحا حينها الموقف السياسي، وخصوصا بعد تحرير الجزء الشرقي من حلب، وهو كما أسلفت كان قرارا ارتجاليا وطنيا، وفي الحقيقة شكل صدمة لبعض الدول الداعمة، وعليه قررت فورا وقف الدعم المقدم للمجلس العسكري. حقيقة لم يرق لها تحرير نحو سبعين في المئة من حلب، وهو ما لم ينسجم مع مخططاتهم التي ترمي إلى معارك استنزاف طويلة وليست انتصارات سريعة، فالغاية باختصار كانت إدارة المعركة لذلك الغرض وليس حسمها لإسقاط الطغمة الحاكمة المحتلة لدمشق.
السبب الثالث
اعتمادا على ما سبق، كان يجدر بنا كثوار ومقاتلين، فهم الموقف الدولي بعمق، وهو ما يستدعي بالضرورة، وهي ضرورة وطنية و وجودية، تقدير موقفنا وإمكانياتنا، وبالتالي التكاتف لاستثمار ما هو متوفر لتحقيق أهدافنا الجليلة في التحرير، إلا أن العكس تماما هو ما حصل.فالعامل الأول لصناعة مشهد تعزز لاحقا وكان له دور في التفرقة، هو عدم قيام قيادة عسكرية حقيقة جامعة، والاستمرار في تهميش الضباط، وخصوصا في مواقع حساسة مثل التخطيط إما في غرف العمليات أو إدارة المعارك على الخطوط الأولى في الجبهات.والعامل الثاني، توجيه كيفي للدعم، وخصوصا الدعم المشروط من قبل بعض التيارات والجماعات الإسلاموية إلى مجموعات وفصائل بعينها مستغلة ضعفها وحاجتها وطيبتها وسلامة سريرتها لتنفيذ أجندتها المرسومة، وعدم دعم تلك الجماعات والتيارات للمجلس العسكري الذي تشكل ليكون نواة المؤسسة العسكرية لتوحيد جميع المقاتلين وقيادة الأعمال العسكرية بشكل احترافي والحفاظ على مؤسسات الدولة ومقدراتها ضمن الرؤية الوطنية وحسب، وهذا ما لم يعجب البعض، فبدأت خناجر الطعن والتشكيك، بأننا علمانيون، بعثيون، أسديون، وسنحارب تلك الجماعات بعد إسقاط النظام.
السبب الرابع
استمرارا لما ذكرته في ثالثا، فإن رابع الأسباب وهو ما لمسه ثوارنا في حلب في حالة الخدر إن صح الوصف الذي تسببت به فصائل إسلامية، وصبغ الحالة النضالية المسلحة بها، صدقا أو خوفا أو مسايرة، وهنا انحرفت البوصلة، وبرز تحرير روما ونحن لم نكن بعد قادرين على تجاوز أمتار قليلة من أوتوستراد الحمدانية.
أخطر ما في هذه المسألة، هو الدخول الناعم لتلك الفصائل مع بداية التحرير، والتغول لاحقا، وأذكر أن مثلا جبهة النصرة كان عددها في بداية الدخول تسعة مقاتلين، والمهاجرون المنضوون في تلك الفترة تحت كنف أحرار الشام التي كان يقودها أسعد بارود المكنى بأبي محمد الحلبي الذي انضم لاحقا إلى جبهة النصرة، كان عدد المهاجرين سبعة عناصر بالضبط، قائدهم أو أميرهم أبو البراء الشيشاني الذي قُتل في معارك تحرير معسكر وادي الضيف، وكان معاونه عمر الشيشاني الذي أصبح فيما بعد القائد العسكري لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) التي خرجت من رحم جبهة النصرة وانفصلت عنها في ربيع العام 2013.
عملت تلك التنظيمات على مبدأ ” تمسكن حتى تمكن”، بل حتى مارسوا في البداية التقية وخصوصا اتجاه الجيش الحر، كيانا وفكرة ومفهوما. شارك عناصر تلك التنظيمات في المعارك واظهروا شجاعة وبسالة، وقُتل قائد النصرة المعروف بالدكتور أبي خالد في بداية معارك صلاح الدين، ويقال إنه اغتيل، وقُتل الشرعي أبو عمار بطلقة قناص في حي سيف الدولة، وبعد مقتلهم استلم قيادتها في حلب عبد الله سندة ابن حي الكلاسة، وانضم المهاجرون لهم، تحت امرة قائد عسكري متشدد يحمل فكراً تكفيرياً متطرفاً هو الطالب الضابط المفصول من أكاديمية الأسد للهندسة العسكري أسامة نمورة ابن مدينة بنش، المعروف بأبي أحمد البنشي، والذي تنقل في الأسماء إلى أبي هاجر الحمصي، وآخر اسم كان له أبو عمر سراقب، قبل أن يقتل في العام 2016.
وفي غفلة من الجميع بدأت تلك التنظيمات تكبر وتتمدد، محاولة حتى التهام الجانب المدني الذي اختص به طيف من ثوارنا، مستثمرة الدعم المقدم لها من داعمين سلفيين وجمعيات دعوية وخيرية في بعض الدول العربية والإسلامية أغلبهم واجهات لأجهزة مخابرات دولية، ونشروا أفكارا مسمومة غريبة عن مجتمعنا، ساعدهم على ذلك حزب التحرير الإسلامي الذي كان أحد أخطر الخناجر في خاصرة الثورة، من خلال منشوراته وكتاباته المنادية بإقامة الخلافة الإسلامية، وتشويه سمعة الجيش الحر بشعارات رفعوها في المظاهرات، (الجيش الحر حرامي بدنا الجيش الإسلامي).
السبب الخامس
للأسباب السابقة، بدأ الانحراف يبدو أكثر خطورة، إذ بدأ ينعكس على الجانب العسكري، ومنها أن التحريض ضد الجيش الحر (المرتد، الكافر) وصل إلى مرحلة اعتبار عدم جواز القتال إلى جانبهم في بعض المواقع والمراحل، في تهيئة ونية مبيته للانسحاب من جبهات القتال الحامية، التي استنزفت فصائل الجيش الحر (صلاح الدين، الإذاعة، سيف الدولة،) والتي لا يوجد فيها أي غنائم أو مكاسب، رغم أنها البوابة باتجاه أحياء حلب الغربية، وربما سيكون صادما حين نصل إلى التهجير وتعداد نقاط الرباط في آخر أيام حلب، ومعرفة من ظل في حلب ومن تخلى عنها.ما حصل فعلا أن جبهة النصرة وأحرار الشام انسحبوا من تلك الجبهات، أي الجبهات الداخلية بين المحرر والمحتل وتركوها لثوارنا، ليحافظوا على قوامهم العسكري، ذاهبين لتحصيل المكاسب والغنائم في أماكن أخرى، وتقوية شوكتهم، حيث صوامع الحبوب والمطاحن والأفران والمعامل، والقطعات العسكرية المليئة بالسلاح والذخيرة، وهنا ومن باب الأمانة التاريخية لابد من ذكر التضحيات الكبيرة التي قدمتها أحرار الشام الذين أبلوا بلاء حسنا في معارك الإذاعة وسيف الدولة جنبا إلى جنب مع فصائل الجيش الحر الذين استنزفوا جميعا، واستشهد الكثير من عناصرهم في تلك المعارك.
السبب السادس
التشتيت متعدد الأوجه منه نشوء صراع من نوع آخر بين الفصائل، صراع على النفوذ والسيطرة وكسب الحاضنة الشعبية من خلال إدارة المناطق وبناء الإمارات كل ضمن رؤيته، وتقديم رغيف الخبز وبعض الخدمات للناس، وحصلت الانقسامات التي لم تقتصر على الحالة العسكرية بل شملت الحاضنة الشعبية، والحالة المدنية، مما انعكس سلبا على المقاتلين الذين انشق الكثير منهم بسبب توقف الدعم، ذاهبين باتجاه التنظيمات الإسلاموية التي قويت شوكتها ونفوذها، بكثرة عناصرها ونوعيتهم وتسليحهم.
وأخيرا وليس آخرا، وكما قلت سابقا، العرض السابق هو رأيي، القائم على المشاهدة والمعايشة، ربما أصيب وربما أخطئ، لكن ديدني من كل ذلك إعادة استحضار الذاكرة للعبرة والتعلم منها بالدرجة الأولى، وجميعنا يتعلم حتى آخر يوم من حياته، إلا أن ثمن هذا الدرس عظيم وجليل، ثمنه تضحيات ودماء.حلم استكمال تحرير مدينة حلب سيبقى غصة، وفي لحظة ما بدأ يدرك الكثير أن المدن الرئيسية، وتحديدا دمشق وحلب، خطوط دولية حمراء، من غير المسموح للثوار أن يسيطروا عليها، فماذا نحن فاعلون؟