..أصبحت كلمة ” حوار ” من الكلمات الأكثر رواجا في هذه الأيام . ويقول لك أحدهم : وربنا حاور حتى الشيطان !!عندما كنا صغارا في مدينة حلب ، كنا نلعب لعبة لطيفة نسميها “أم الدقرة والنقرة ” وأساسها أنه يكفي للاحق أن يمس الملحوق ولو مسا خفيفا ، دقرة أو نقرة ، برؤوس أصابعه ، حتى تنتقل النوبة إليه ..ويقابلها لعبة العد على العشرة .
أشارك في كثير من مجموعات السوريين : إسلامية خالصة ، وسورية مختلطة ، وأشاهد كثيرا من الأصحاب والأحباب يمارسون الحوار على طريقة الدقرة والنقرة نفسها. يقف أحدهم على أفواه الآخرين ، وقفة متربص ، حتى إذا نطق أحدهم بكلمة عجلى ، أو زل به قلمه في موطن ، انقض عليه الآخر عيبا وتجريحا وتثريبا ، ثم يتمادى بهما الأمر في أخذ ورد فرديين عقيمين كل منهما ينتصر لنفسه ولشخصه ، في جدل عقيم ، لا ينبني عليه شيء .يعلق المسلم على أخيه : ذكرت اسم الله ولم تجله ، وذكرت اسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم ولم تصل عليه ثم يستغرقان ، ويقول الآخر للآخر ليس صحيحا التاريخ الذي أرخت ، والتوقيع على البيان الذي ذكرت ثم يغرقان ..!!
وكان مما تعلمنا وكل جدل في أمر لا ينبني عليه شيءفالخوض فيه باطل. . ثم يعتبر بعضهم هذا الجدل أو ما يسميه العرب ” التهارش ” حوارا !! فهل حقا هذا هو الحوار الذي يوسع الدوائر ، ويطلق الآفاق ، ويعتمد الأسس العملية للقاء على الجوامع الأكبر ، والتجاوز عند الصغائر ، وترك تتبع عمليات توليد المآلات ، وأن يمتحن السوريُّ السوريَّ وكأنهما في قبو مخابرات ، وكل واحد يعتبر أن من حقه أن يستطيل على الآخر باسم الدين أو باسم العلم أو باسم التاريخ أو باسم الحداثة أو باسم العشيرة أو باسم محل الإقامة أو باسم المهنة ..؟!
هل الحوار هو هذا التراشق المنبوذ ، والاتهام المسبق ، وحمل الكلام على أضيق دلالاته التي ضاق كل العقلاء بها ذرعا طوال عشر سنوات ..هل ذاك هو الحوار ، أو الحوار هو أن تعرض رأيك في قضية ذات بال ، تستحق أن تشغل الناس بها ، تعرضه مبسوطا معللا مشروحا ، راجيا أن تقنع به من حولك ..أو أن تكتب مستجيبا لمن يعرض رأيه على الطريقة نفسها ، فتحاور الفكرة وتقلبها على وجوهها دون أن تتعرض أصلا لصاحبها ، فصاحب الفكرة الصادق ، يحب أن يرى فكرته موضع اهتمام الناس ، وموضع اعتبارهم ، يقلبونها ظهرا لبطن ، ورأسا على عقب يفيدون مما فيها من حق ، ويفرزون ما فيها من خطل وخلل..ثم بين العرضين يكتشف المتحاورون بالتي هي أحسن ، ما بينهم من جوامع فيمتنونها ، وما بينهما من خلاف فيعملون على تفهمه وتضييق مساحته ..في الحوار هناك متحاورون ، وهناك متابعون ، وكثيرا ما رأى على بعض الصفحات ما لا يروق لي من القول ، فأقول ومتى كنت أنا كل الناس ، فما لا يروقني قد يروق قوما آخرين ..بالأمس فقط على إحدى المجموعات حدث حوار من هذا النوع بين صديقين، أخذ ورد على كلمة واستطال واستطار في أكثر من أربعين رسالة حول كلمةواحدة .. ربما ألقاها الأول وهو لا يلقي لها بالا ، ثم تمسك بها حتى انتهى الأمر بالصاحبين إلى تبادل ما هو أقسى من الاتهام ..كل ما يكتبه كتاب الأعمدة والمقالات هو عرض قضايا حية للحوار وبطريقة عملية .
يعرض صاحب الافتتاحية رأيا ، وقد يكون تبشيريا أو تسويغيا أو تعليما… ويكون بذلك قد طرح مادة للحوار .. فكرة متكاملة مأننة معللة منقحة مستوفية ، ..وهو يقول للصديق والصاحب والقريب والبعيد ” هذا رأينا ” فإن كان عندك تقريب فقرب ، أو تسديد فسدد ، أو تصويب فصوب ، أو تصحيح فصحح ..وهكذا يدور بين الناس الحوار . الحوار حول الأفكار وليس حول الأشخاص !!هل هذا هو الحوار كما أظن هو أو كما يظنون ..؟! أنبئونا بعلم فإنا في التعلم راغبون، وعليه حريصون
..لندن : 16: ربيع الأول / 1442 – 2/ 11/ 2020
زهير سالم : مدير مركز الشرق العربي