عبدالوهاب بدرخان //النهار العربي:3/10/2022
بعد الاستفتاءات الشكلية وضمّ روسيا أربع مناطق أوكرانية (دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا)، وبعد خطاب فلاديمير بوتين في هذه المناسبة، وبعد التفجيرات في خطّي “نورد ستريم” للغاز… ارتسمت معالم المرحلة التالية في الحرب، وعنوانها “التصعيد” من الجانبين كخيار لا بدّ منه، وهي مفتوحة على الاحتمالات الأسوأ والأخطر.
أطلق الرئيس الروسي مع ضمّ أراضٍ احتلتها قواته رسالتين، مفادهما أن الحدود تحدّدها القوة لا المفاوضات، وأن المسّ بما يعتبرها “أراضٍ روسية” بات مجازفة بتفجير مواجهة نووية مع حلف شمال الأطلسي. لكن كوارث مواجهة كهذه، إذا حصلت، لن تقتصر على أوكرانيا، بل تشمل أراضي روسيا نفسها، بحسب التحذيرات الأميركية والغربية.
كما كان متوقّعاً، أُخرجت نتائج الاستفتاءات كـ”إعلان نصر” روسي، يُفترض أنه نهاية ما سُمّي “عملية عسكرية خاصة” وبداية عملية تحصين “الغنائم”.
إلا أن الصراع سيستمر ولم يعد هناك أي تصوّر لنهاية قريبة وبعيدة له. وفيما طلب بوتين من كييف و”مشغّليها” وقف القتال و”العودة إلى طاولة المفاوضات”، فإنه في الوقت نفسه قتل أي تفاوض بقوله إن المناطق الأربع التي ضُمّت لن يشملها لاحقاً أي تفاوض، أي أنه لا يتوقّع من “أوكرانيا الجديدة” سوى الموافقة على سلخ خمسة عشر في المئة من أراضيها، لتنال السلام.
لكن فولوديمير زيلنسكي ردّ بأن كييف “لن تتفاوض مع روسيا ما دام بوتين رئيساً، بل مع الرئيس الجديد”، معلناً التوقيع على ترشيح أوكرانيا “لنيل عضوية حلف الأطلسي سريعاً”.
غير أن الدول الغربية انقسمت بين الترحيب والتسويف والقول بالتزام الآلية المتّبعة للعضوية، وأوضح مستشار الأمن القومي الأميركي أن لدعم أوكرانيا على الأرض “أولويةً على انضمامها إلى الناتو”.
عدا تسريع شحنات عسكرية “جديدة وفورية” إلى أوكرانيا، وعقوبات إضافية ستفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للتضييق على روسيا، ويكابر بوتين بتجاهل تأثيرها في الاقتصاد الروسي، يشكّل ضمّ الأراضي منعطفاً دولياً حرجاً. إذ إن الإدارة الأميركية، كذلك الكونغرس، تدرس إمكان فرض عقوبات على أي دول وكيانات وأفراد يؤيّدون قرار الضمّ.
كما أنها تتشاور مع عدد من أعضاء التحالف الغربي في شأن انضمامها إلى هذا الإجراء.صحيح أن الأطراف المعنية لن تفصح عن تأييد روسيا، ولعلّها لا تفكّر فيه، إلا أن مجريات الصراع الدولي واستقطاباته قد تستدعي مواقف أكثر وضوحاً من جانب شركاء الغرب وأصدقائه، بعدما تموقعوا جميعاً في المنطقة الرمادية بين الحياد الصُوَري والانحياز إلى روسيا، مقنّعاً أو ضمنياً.
وفيما يقرّ خبراء استراتيجيون بصعوبة التخيير بـ”إمّا معنا أو ضدّنا”، فإنهم يحذّرون من أنه قد يأتي بنتائج عكسية. الخطوة التي أقدم عليها بوتين مربكة للحلفاء الغربيين، على رغم أنهم شدّدوا على عدم تغيير خطّهم وأهدافهم في التعامل مع روسيا.
إذ إن الاستيلاء بالقوّة على أراضي بلد مجاور لن يُقبل إطلاقاً، ولن يُعترف بنتيجته، ليس فقط من جانب الغرب بل من المجتمع الدولي كافةً، نظراً إلى نزاعات حدودية لا حصر لها.
لم تكتفِ روسيا بـ”الفيتو” ضد قرار في مجلس الأمن يدين الاستفتاءات “غير القانونية”، وينكر أي “شرعية” لتغيير وضع تلك المناطق “بما في ذلك أي ضمّ (روسي) مزعوم”، بل استهجن مندوبها تصويت المجلس “للمرّة الأولى” ضد أحد أعضائه. أما الصين والهند فاختبأتا وراء “الفيتو” الروسي لتُظهرا “حياداً” بالامتناع عن التصويت، ومع أن بكين دعت إلى “احترام وحدة أراضي الدول كافة”، فإن بينها وبين جيرانها، عدا تايوان، خلافات حدودية لا تُحصى. خارج مجلس الأمن، حرصت تركيا التي تلعب دوراً وسيطاً مع روسيا، على رفض ضمّ المناطق الأوكرانية، مذكِّرة بأنها لم تعترف بضم شبه جزيرة القرم عام 2014، ومن الطبيعي أن لا تؤيّد أنقرة استخدام ورقة التفكيك والضمّ هذه، كونها دائمة الخشية من أي خطر كردي انفصالي يهدّد وحدة أراضيها.
ولعل إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يُتوقَّع منها أن تتخذ موقفاً مع الخطوة الروسية أو ضدّها، فهي تخالف كل القوانين والمبادئ الدولية إزاء أراضي فلسطين وحقوق شعبها، لكن كل المحاولات لإدانتها أو محاسبتها في مجلس الأمن أحبطها “الفيتو” الأميركي.
من قبيل تحصيل الحاصل أن يؤيّد النظام السوري قرار بوتين، بعدما كان قد اعترف بـ”جمهوريتَي” دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، فهو يؤكّد بذلك أن “وحدة سوريا” لم تعد تهمّه إلا في إطار تعميم بطشه و”التجانس الديموغرافي” الذي عمل ويعمل عليه مع الإيرانيين. أما إيران فإنها لا تُعيب على بوتين استيلاءه على أراضٍ بالقوّة، لكنها ربما تلومه لأنه لم يتقن زرع ميليشيات أوكرانية لتقوم بالمهمة نيابةً عن جيشه، على غرار ما فعلت في أربعة بلدان عربية. هذا لا يمنعها من أن تنظّر للتوسّعات البوتينية وسعيها إلى إنهاء الهيمنة الأميركية – الغربية. بين المؤشرات إلى المخاطر الكبرى للصراع الدولي الدائر، وربما توسّعه خارج أوكرانيا، برز أخيراً تفجير خطّي الغاز الروسي إلى أوروبا، “نورد ستريم 1 و2”.
تتطلّب هذه العملية جهداً استخبارياً ولوجستياً، وتبدو في الشكل تحدّياً (روسياً؟) لحلف الأطلسي الذي يفعّل حالياً عضويتَي فنلندا والسويد (رُصد تسرّبٌ للغاز بالقرب منها)، وفي المضمون تبدو تسعيراً لأزمة الوقود في أوروبا وقطعاً (أميركياً؟) للآمال في نهاية قريبة للحرب. وفيما تبادلت الأطراف الاتهامات وأنكرت أي مسؤولية لها، اتفق الغربيون على القول إنها “عمل تخريبي متعمّد” يُفهم منه أن روسيا أقدمت عليه.
أما الجانب الروسي، تحديداً بوتين، فركّز أولاً على أن التفجير حصل في منطقة تسيطر عليها الاستخبارات الأميركية، ولفت ثانياً إلى “من المستفيد؟” أو “مَن له مصلحة؟”.
بمعزل عن المواقف المعلنة، يبدو الأوروبيون المتضرّرون مقتنعين بأن شيئاً لا يبرّئ الروس أو الأميركيين، إذ إنهم يمكن أن يعهدوا بالعملية إلى “جهة متعاقدة” تنفّذ ولا تترك أثراً يفيد “التحقيق الجنائي”، كما أنهم لا يستبعدون احتمال أن تكون الجهة المنفّذة من الأوكرانيين “المتشدّدين”.
الأكيد أن هذا الحادث صار من وقائع الحرب، وإذا كانت موسكو تشير إلى فرضية “المستفيدين” الأميركيين منه، استراتيجياً وبخاصة تجارياً، فإن واشنطن وحليفاتها لا تستبعد أن يكون التفجير إرهاصاً روسياً لتوسيع نطاق الحرب إلى خارج أوكرانيا.
ذاك أن بوتين حرص دائماً على أن يتوقع منه الغربيون كل شيء إلا القبول بالهزيمة. أما الغربيون، ومعهم أيضاً الآخرون كالصين والهند، فيرون أن الرئيس الروسي يواصل الغرق في المستنقع الذي حفره بنفسه.