عبد الله التركمان /سوريا الامل
مع اقترابها من عامها الحادي عشر يدرك السوريون ما آل إليه واقع حراكهم الشعبي من عسكرة سعى النظام إليها، ومن حسابات سياسية مصلحية تراعي مخاوف الغرب من نمو التطرف وتنامي ظاهرة ” المجاهدين ” في سورية.
لكنهم يعلمون أنّ النظام ليس مسؤولاً فقط عن استدامة الاستبداد في بلادهم لأكثر من خمسة عقود، فهذا الاستبداد هو الذي دفع إلى نشوء الثنائية بينه وبين الإرهاب، مثل ثنائية ” الأسد أو نحرق البلد “.على أية حال ترتبت على وحشية النظام، وسلبية المجتمع الدولي، والتدخلات الخارجية المضرة، من الأعداء و ” الأصدقاء “، عدة ظواهر:
(1) – انحسار الحراك الشعبي، وخروج الوضع من تحت سيطرته، من دون أن يعني ذلك انتهائه، بدلالة تراجع مكانة إطاراته الشابة التي ساهمت في إطلاقه، أو تعبيراتها، السياسية والمدنية والإغاثية.
(2) – تحوّل سورية إلى ساحة مفتوحة للصراعات الدولية والإقليمية على المشرق العربي، بمعزل عن مصالح السوريين.
(3) – تصدّر الجماعات المسلحة المتطرفة والتكفيرية، التي تتغطى بالإسلام، والتي يصعب التمييز بين كونها معطى داخلياً، وبين كونها معطى خارجياً، أو كنتاج للتدخلات المخابراتية، الدولية والإقليمية والعربية المتضاربة.
لماذا وصلنا لهذه النتائج؟ وما هي الاسباب التي جعلت الحراك الشعبي يخرج من يد أصحابه الذين أطلقوه؟لقد حدث التحوّل لأسباب وعوامل متعددة منها تسلح الحراك رداً على الخيار الأمني للنظام، لكنّ العسكرة جرت بشكل عشوائي، كما تم إفشال جميع محاولات إنشاء قيادة موحدة تتمتع بقرارات مركزية مطاعة من الجميع.
وابتعد حاملو السلاح تدريجياً عن الارتباط بالحراك المدني، وعملوا لوضع المؤسسات المدنية تحت سيطرتهم بدل أن يحدث العكس، بأن تتبع القوى العسكرية لقيادة سياسية. مما ترك المجال لتعملق عسكريي الثورة وإخضاع الحراك المدني لكتائبهم المسلحة.كما أنّ أسلمة العمل المسلح لم يأتِ فقط من غزو الجهاديين الخارجي، بل أيضاً من تأسلم الكتائب للحصول على الدعم المادي والتسليحي من الداعمين.
كما استندت الأسلمة لعامل محلي هو درجة عالية من التديّن تميزت بها قطاعات واسعة من الشعب السوري، خاصة في الأرياف. لكنّ التديّن الشعبي شيء والتطرف في تديين أهداف الحراك شيء آخر، لا يتفق مع الغالبية المؤمنة في سورية التي كان واضحاً منذ البداية أنّ ثورتها ليست لهدف إقامة دولة دينية بل دولة مدنية.
وفيما يبدو وكأنه مسعى جديد إلى إعادة تعويم النظام والدفع باتجاه إعادة تأهيله، ظهرت، مؤخراً، أفكار سياسية ترتكز عليها بعض المبادرات، وتشترك جميعها بفكرة أساسية هي أنّ المعارضة لم تعد طرفاً فاعلاً. وفي هذا السياق، فبمجرد الالتقاء مع ممثلي النظام، خارج الإطار الذي أقرته الشرعية الدولية، خاصة الالتفاف على تراتبية القرار الدولي 2254 التي تبدأ بإطلاق سراح المعتقلين، تكون هذه المبادرات قد ساهمت في دفن مفاوضات جنيف، وجميع قرارات مجلس الأمن التي تنص على مفاوضات رسمية واضحة، لها هدف محدد، هو الانتقال نحو نظام ديمقراطي، وآلية تنفيذية هي تشكيل هيئة حكم انتقالي تعد البلاد لعملية انتقال سياسي.
إنّ مشكلة سورية لا تتمثل في وجود هذا المشروع أو ذاك، بغض النظر عن الموقف منه، وإنما هي تتمثل في الافتقاد المريب، والمشين، لأي عملية سياسية جدية، يمكن أن تؤسس لتوافق دولي وإقليمي، يؤدي إلى وقف تعميم القتل والخراب والتشريد الجاري منذ أكثر من عشرة أعوام.في كل الأحوال، هناك شروط أساسية لأي حلٍّ، كي يقترب من أن يكون حقيقياً، وأولها ألا يجرى تفصيله على مقاس الرغبات الروسية – الايرانية، وأنه لا بدَّ من أن يرسم خريطة خروج الأسد، طريقاً وبوابةً، بدءاً من إقرار إخضاع المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية للسلطة السياسية، أي للحكومة الانتقالية، بغية إعادة هيكلتهما وإبعادهما عن التدخل في الحياة السياسية.
وبين كل الاحتمالات يبدو أنّ مآل الحل الواقعي والمنطقي والذي يتفق مع مصلحة السوريين، السعي لإنهاء الوضع الكارثي السوري بحل سياسي تفاوضي يقيم حكماً انتقالياً بكامل الصلاحيات شريطة أن لا يشارك فيه القاتل بشار الأسد وكل الذين تلطخت أياديهم بالدم السوري، يوقف إطلاق النار ويقود عملية انتقالية تمر بدستور جديد وانتخابات تشريعية ورئاسية وعودة المهجرين وإعادة الإعمار ومواجهة المنظمات الإرهابية، وكل من لا يقبل بوقف القتال والاحتكام للعملية السياسية.
الصراع في سورية هو صراع إقليمي ودولي عبر السوريين، ولن ينتهي إلا إذا جرى توافق دولي وإقليمي على الخروج منه. لكنّ التوافق لن يأتي من هذه القوى الخارجية بقدر ما سيأتي من قدرة رجالات ونساء سورية على صنع توافق يحمي بلدهم، على مستوى السياسة كما على مستوى القوى العسكرية.
وبناء على ما تقدم، يبقى العامل الذاتي الوطني حجر الأساس في أي تعامل مع المبادرات والجهود التي تقارب المسألة السورية. فمن دون قيادة سياسية متماسكة للمعارضة تمتلك رؤية سياسة واضحة ومطمئنة لسائر المكوّنات السورية، على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات، وتأخذ في اعتبارها المعادلات الإقليمية والدولية، وتؤكد للجميع أنّ سورية المستقبل ستكون عامل استقرار وسلام لمصلحة الجميع، ستبقى الأمور عائمة، مفتوحة على غير ما هو منشود.
ومن دون قيادة كهذه ستبقى كل جهود المعارضة الميدانية، بما في ذلك تدريب القوات لدى الدول المختلفة، مجرد قطع متناثرة في لوحة غير مكتملة.يستدعي هذا، قبل أي شيء آخر، العودة إلى ذاتنا، واستعادة روح الثورة والمبادئ التي كانت تمثلها، في الحرية والكرامة وحق الشعب في تقرير مصيره، ورفض المساومة على القضية التي ضحى من أجلها ملايين السوريين.
فمن دون إحياء روح الثورة من جديد، وتعميم إشعاعها في قلوب أغلب السوريين، لن يبقى هناك أي معنى لمعركتنا الراهنة، وسيتحول الكفاح البطولي المرير الذي خضناه، منذ سنوات، إلى اقتتال مجاني، عبثي. وسوف يشجع هذا جميع القوى الانتهازية على التلاعب بمشاعر السوريين، المنكوبين والمحبطين، لتبرير أي اتفاق على حساب مصالحهم ومستقبل أبنائهم، بما في ذلك تبرير التسليم بالأمر الواقع، والاستسلام لحكم القوة الغاشمة.