د نائل جرجس
يحتدّ النقاش في إطار المفاوضات السياسية الحالية الرامية إلى الوصول إلى حلّ سياسي للأزمة السورية ورسم مستقبل لسوريا الجديدة، وذلك فيما يخصّ قضايا مختلفة منها دور العروبة في دستور سوريا وإضافة كلمة “العربية” إلى تسمية الجمهورية السورية. فيتشبث الفريق المساند، الذي يمثّل وجهة نظر النظام السوري وفئة ليست قليلة من المعارضين السوريين، بالعروبة وضرورة المحافظة عليها في مستقبل سوريا. فبالنسبة للنظام السوري، شكّلت العروبة خلال فترة حكمه ركيزة شرعية في الحكم، لاسيما في ظلّ تغول أفكار حزب البعث العربي الاشتراكي المبنية على أيدلوجيا القومية العربية، من ناحية، واستبعاده إلى حدٍ ما للأيدلوجيا الدينية التي لاتوفر له شرعية نظراً لانحدار رئيسه من أقلية دينية لا تمثّل الغالبية في سوريا، من ناحية أخرى. هذا ولم يقتصر الجدل في مسألة العروبة بين النظام السوري ومعارضيه، بل شملَ أيضاً خلافات في أوساط المعارضة السورية نفسها التي يرى قسماً منها ضرورة الحفاظ على العروبة بصفتها إرث قومي سوري ثقافي وحتى ديني، وذلك في خلاف واضح مع معارضين آخرين يدعون إلى استئصال أي تأثير عروبي أو ديني في وجه سوريا الجديدة وبالتالي إقامة دولة مواطنة قائمة على المساواة بين الجميع بصرف النظر عن الانتماءات الدينية والأثنية. وتعدّ التيارات الكردية، بشقيها السياسي والعسكري، من أبرز المعارضين لأي دور للعروبة في وجه سوريا الجديدة، لما لتأثيرها من سلبية على حقوق الأكراد تبيّنت في الحقبة المعاصرة، بينما تكاد تغيب الأصوات الكردية المعارضة للعروبة قبل إستقلال سوريا، الأمر الذي يدفع للتساؤل عن أسباب ذلك.لكي تستطيع الأطراف السياسية السورية الوصول إلى تفاهمات في مسألة العروبة ودورها في مستقبل سوريا، لابدّ من العودة إلى أصول الفكر القومي العروبي و تطوره وتأثيره على وضعية غير العرب. في هذا الإطار، سنبين نشأة العروبة في تاريخ سوريا ودوافع الذين سعوا إلى تأصيلها في الجزء الأول من هذا المقال، قبل أن نسلّط الضوء في الجزء الثاني على العروبة في شكل الدولة السورية وتأثيرها على حقوق المواطنين.يمكن التمييز بين أربعة تيّارات أساسية ممن تبنوا العروبة وسعوا لتأصيلها :أولاً: العروبة وغير المسلمين العرب لقد طُبّقت الشريعة الإسلامية بتفسيراتها المختلفة منذ الفتوحات الإسلامية في القرن السادس الميلادي وحتى نهاية الحقبة العثمانية. وبالتالي تعرّض غير المسلمين، لاسيما أهل الكتاب من المسيحيين واليهود، لأشكال مختلفة من الذميّة، تمثّلت بشكل خاص بفرض الجزية الإسلامية عليهم وبالتمييز ضدهم في المجال السياسيي والتشريعي. وهكذا سعى غير المسلمين إلى إيجاد هوية جامعة غير دينية تسهم في استئصال التمييز ضدّهم، فكانت القومية العربية، كأيديولوجيا منافسة للإسلاموية، دور أساسيّ في تحسين الوضع القانوني لغير المسلمين العرب والحدّ من التأثير الديني على الدول والقوانين في المجتمعات ذات الغالبية العربية. فشكّلَ ذلك بداية اندماج غير المسلمين بمجتمعاتهم على أساس فكرة الوطن التي حلّت تدريجياً محلّ مفهوم “الأمة” القائم على الفصل بين المسلمين وغير المسلمين. و في هذا السياق لعبت الأقليات الدينية وخاصة المسيحية دوراً هاماً في تأصيل القومية العربية، وهذا ما ظهر من خلال مشاركتها الفعّالة في إرساء دعائمها. فمنذ مطلع القرن التاسع عشر، برزت مشاركة غير المسلمين في تطوير ثقافة قومية عربية، خاصة داخل الأوساط الدينية.ثانياً: العروبة كمشروع نهضوي وتنويريتعدّ مدينة حلب السورية من أبرز معاقل النهضة العربية التي دعت إلى إرساء دعائم هوية عربية جامعة وموحّدة للعرب بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية. وهكذا أسهمت النهضة العربية بالحدّ من الانقسام الديني في المجال العام لصالح تعزيز الانتماء العربي. فقد كانت حركة تجديد سياسي اجتماعي ثقافي، تهدف بالرقي بالمنطقة العربية والحفاظ على تراثها وتحقيق نهضتها. وهكذا كان مصلحة غير المسلمين مزدوجة، أي التحرر من القيود الدينية وتطوير بلدانهم وتحررها. وقد شاركَ غير المسلمين مع إخوانهم المسلمين في النهضة العربية. كما نشرَ حوله المطران الماروني الحلبي جرمانوس فرحات (1732-1670) تعليماً دينياً عربياً، وبخاصة قواعد اللغة المستمدة بشكل أساسي من الإنجيل ومن قصائد عربية تقليدية، ومن خلال ذلك جذبَ فرحات العديد من الشرائح المجتمعية من بينهم خيرة المثقفين الذين أصبحوا لاحقاً المؤسسين الحقيقيين للنهضة العربية. ومن بين المسيحيين العروبيين نذكر كل من بطرس البستاني (1883-1819) وإبراهيم اليازجي (1817-1906)، وهو ابن ناصيف اليازجي، الشاعر والكاتب الذي عُرف بأعماله التي رمت إلى تحديث اللغة العربية. ويعدّ هؤلاء من أبرز مفكري النهضة العربية، مع مفكرين مسلمين آخرين أمثال عبد الرحمن الكواكبي (1849/1902). وقد أكّد البستاني على مفهوم الهوية والكتلة العربية المستقلة والتي أصبحت فيما بعد الأساس لفكرة الأمة العربية الواحدة .ثالثا: العروبة ومقاومة الاستعمارتنامت مشاعر القومية العربية ومعها الفكر العروبي في المنطقة العربية في مراحل النضال ضدّ الاستعمار العثماني ومن بعده الفرنسي والإنجليزي. فقد تعززت القومية العربية كردّة فعل على سياسات استعمارية كـ”العثمنة” و”الفَرْنَسَة”، وذلك بهدف حماية الهوية العربية وتعزيز التضامن العربي ودحر المستعمر وتحقيق الوحدة العربية، لاسيما إثر تقسيم المنطقة بين القوات الغربية، وبخاصة فرنسا وانجلترا، بموجب اتفاقية سايكس/بيكو الشهيرة. فقد ناضلَ قاطني المنطقة من أجل التحرر من الإمبراطورية العثمانية مدّعين بأحقية العرب في الخلافة، خاصة الراحل عبد الرحمن الكواكبي. كما كانت بعض شخصيات النهضة العربية تدعو إلى العلمانية من أجل رفض ولاية السلطان الذى كان يضفي شرعية حكمه من كونه الخليفة لكل المسلمين في العالم. فأتاحت، العروبة للمسلمين وغيرهمً، بالتعبئة ضد العثمانيين قبل أن تصبح أيدلوجيا وطنية تمّ تطويرها لتكون أساساً للوحدة بين جميع الدول العربية التي مزّقها الاستعمار الأجنبي. وفي هذا السياق، حملت الثورة، التي أعلنها الشريف حسين ضد الإمبراطورية العثمانية، أسم “الثورة العربية الكبرى”، وذلك في العام 1916. كما تجدر الإشارة إلى دور العروبة في النضال ضدّ الاحتلال الإسرائيلي الذي اعتمدَ بشكل أساسي على جذب وتوطين اليهود غير العرب في فلسطين.رابعاً: العروبة والاسلاميين برزت تيارات إسلامية اعتمدت العروبة كمشروع توحيدي للدول العربية في إطار تجديد الإسلام وإعادة تشكيل الأمة الإسلامية التي انهارت مع إلغاء مؤسسة الخلافة وتقسيم الدول العربية. كما يعود تبني العروبة وتقبلها ودعمها في الأوساط الإسلامية كون العربية هي لغة القرآن، ومنها ينحدر رسول الإسلام. وهكذا برزَ في القرن العشرين تيارين متضادين، كلاهما يعتمد العروبة، غير أنّهما اختلفا في أجنداتهم وأهدافهم. فبينما سعى التيار العروبي/الإسلامي إلى إعادة ترسيخ الدولة الدينية، عملَ التيار العروبي/اللاديني، المؤلف من نهضويين ويساريين وغير مسلمين، إلى فصل الدين عن الدولة وإلغاء أي تمييز ديني. وقد تطّورَ هذا التيار الأخير العروبي القومي العلماني في القرن العشرين بفضل جهود بذلها بشكل خاص مسلمين أمثال ساطع الحصري (1880/1968)، وغيرهم كالعلوي السوري زكي الأرسوزي (1900-1968) والمسيحي ميشيل عفلق (1910-1989)، وهما أبرز منظرا الأفكار البعثية العربية التي أسهمت لاحقاً بوصول العديد من الأحزاب السياسية العروبية إلى السلطة . وقد استمر تأثير العروبة في وجه سوريا بعد التحرر من العثمانيين ومن الفرنسيين، كما يتبين من خلال دساتيرها المتعاقبة، غير أنّ العروبة قد أضحت نظام حكم أيدلوجي قمعي لاسيما في ظلّ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة عام 1963، وهذا ما سنسلّط الضوء عليه في الجزء الثاني من هذا المقال