العصبية، العمى، العنف؛ ثلاث كلمات تنتظم تفكير وسلوك الجماعات الدينية والقومية، بل والسياسية والأيديولوجية أيضًا في المنطقة العربية، لتؤلِّف ثلاثية مسيطرة وقاتلة. يمكن القول إن العصبية تؤدي إلى العمى، وهذا بدوره سينتج العنف. لكن يمكن القول أيضًا إن العمى، الجهل وعمى البصيرة، هو أساس كل عصبية، وهذه بدورها خزان العنف. كذلك يمكن القول إن العنف السائد في المجتمع يدفع المرء للاحتماء بالعصبية، ومن ثم يغدو مدافعًا أعمى عنها. ربما من الأفضل، كي لا نضيع في متاهة الكلمات، ودوامة السؤال عن السبب والنتيجة، أن نقول إن هذه الثلاثية متكاملة، تغذي نفسها بنفسها، وكلُّ ركن من أركانها يغذي ركنيها الآخرين.كثيرًا ما نواجه في الواقع أسئلة تصعب الإجابة عنها، أو ربما لا تقنعنا الإجابات المتوافرة عنها. كيف نفسر أن الشخص الذي قتل ثلاثة أشخاص لا يعرفهم داخل كنيسة في مدينة نيس بفرنسا، وقطع رأس أحدهم، ظلّ يصرخ مرارًا وتكرارًا “الله أكبر” قبل أن تطلق الشرطة النار عليه، ما يعني أنه مقتنع تمامًا بما فعل؟ وكيف نفسر سلوك كثير من الطيارين السوريين الذين كانوا يحلقون بطائراتنا فيما هم يقصفون أبناء بلدهم الذين لا يعرفونهم بصورة مباشرة، من دون أن يرفّ لهم جفن أو ينتابهم شيء من التردّد؟ هذا النوع من الجرائم التي لا يبتغي صاحبها مصلحة مادية واضحة، ولا يعرف الضحية مباشرة، قد لا تقف عند هذا الحد، بل قد تتعداها إلى التمثيل بالجثث وتقطيعها أو التشفي بها. تحويل الآخر إلى أشلاء دلالة على الرغبة القوية في سحق الضحية ونفي كيانها كليًا.
نحن أمام جرائم أو أعمال إرهابية مثبتة، أصحابها لا يعرفون الضحايا، وهم مقتنعون بأنهم في الطريق القويم، وربما لو قُيِّض لهم الكرة لأعادوها مرارًا وتكرارًا. لكن أيًا تكن تفسيراتنا، فإن الجرائم المنفذة تبقى جرائم، ويستحق مرتكبوها العقوبة القانونية المتوافقة مع طبيعة الجريمة. في المقابل، ينبغي لنا ألا تستغرقنا الجرائم هذه ومرتكبوها، فنقف عند حدودها، ومن ثمّ نقطع التفكير في العوامل المولِّدة لها، خصوصًا مع وجود كثير من البشر الذين يمكن أن يحتفوا بمثل هذه الجرائم؛ رفع عدد من الأشخاص مؤخرًا، في مدينة إدلب، صور الشيشاني الذي قطع رأس المدرس الفرنسي احتفاء به! في مثل هذه الحالات، من الصعب أن ينظر القاتل إلى نفسه أنه إنسان، وينظر في الوقت نفسه إلى ضحاياه أنهم بشرٌ مثله؛ لأن من شأن ذلك أن يسبب تناقضًا كبيرًا في رأسه، وشعورًا بالذنب، لا يمكن احتمالهما. على العكس، فالقاتل هنا، بالضرورة، ينفي الصفة الإنسانية عن ضحاياه، ويبدي شيئًا من الفرح أو القناعة بما يفعل، فهو يقتل بحماسة، وينظر إلى عمله وكأنه يؤدي رسالة مقدسة بحسب اعتقاده، سواء أكانت رسالة دينية أو أيديولوجية أو وطنية أو غيرها. في مجتمعاتنا، لا تزال العصبيات هي الفاعل الرئيس في تفكيرنا وأدائنا، والحداثة ليست أكثر من قناع ظاهري. في رؤوسنا خليط من كل شيء؛ من البداوة والتقليد والحداثة، جنبًا إلى جنب من دون تمازج، وأكثر ما تتجسد هذه الظاهرة/المشكلة في تشابك الأزمنة، إلى درجة نشعر فيها بالحضور الكثيف للماضي في الحاضر، أكثر من حضور الحاضر نفسه، وأكثر من حضورنا نحن في الحاضر.
أحزاب ومؤسسات، سياسية ومدنية، حديثة شكلًا، وقبليّة الطابع مضمونًا. ليس غريبًا أن تجدنا نمسك بـ “مسبحة” في يدنا، ونمسك بعدّاد إلكتروني بيدنا الأخرى، صنعه الغرب خصيصًا لنا لنحصي به عدد مرات نطقنا بالشهادة يوميًا؛ استُخدمت الحداثة في بلداننا من أجل إعادة إنتاج التقليد وديمومته. المشكلة نفسها نعانيها منذ أكثر من قرن، ولا جديد في هذا الكلام. الجديد هو أن مسارنا، منذ سنوات، انحداري ومتسارع، أي من السيء إلى الأسوأ، ومن الأسوأ إلى الأكثر سوءًا، فيما كان المسار قبل قرن من الزمان صاعدًا. بعد أن غادرت سورية بمدة قصيرة، توقعت أن السوريين المعارضين الذين عاشوا في الغرب أكثر تحضرًا، وأوسع تفكيرًا منا، لأكتشف أن قسمًا كبيرًا منهم بدا، فعليًا، كأنه لم يغادر سورية، ولم يعش في الغرب أبدًا، ولم يستفد منه، ما يوحي بأن أوروبا لم تكن بالنسبة إليهم أكثر من قطعة أرض يعيشون عليها، وليسوا معنيين بثقافتها وعلمها وفنها وروحها، تمامًا كما كانت سورية هي الأخرى بالنسبة إليهم؛ مجرد قطعة أرض للانطلاق إلى مشروعاتهم الكبرى، القومية والإسلامية والأممية. هناك سؤال يتردّد كثيرًا في أوساط المعارضة السورية: كيف لمن عاش في الغرب أن يستمر في تأييد النظام السوري، بعد أن عاش في الغرب، واطلع على ثقافته ونظمه وقوانينه؟ في المقابل، هناك سؤال موازٍ ينبغي لنا أن نسأله لأنفسنا: كيف يمكن لسوري معارض للنظام السوري، عاش في الغرب، أن يستمر محافظًا على تصوراته التقليدية في السياسة والحياة؟ ربما كانت العصبية هي التي تحكم الموقفين السابقين، تأييدًا أو معارضة.
وفي الحصيلة، سورية لن تستفيد، ولن تتطور، بمثل هاتين العصبيتين. هناك أربع حقائق تنتظم العصبيات كلها، سواء أكانت دينية أم قومية أم أيديولوجية:
الأولى؛ العصبيات كلها تحمل في أحضانها بذور الاقتتال الداخلي أو العنف الموجه إلى الخارج.
الثانية؛ أن العصبيات تستطيع أن تبني سلطات، قهرية في الغالب، لكنها لا تستطيع أن تبني دولًا أو أوطانًا.
الثالثة؛ أن العصبية نظام مغلق على نفسه، يميل دائمًا إلى التكرار والاجترار والدوران في المكان، وتنظر إلى نفسها أنها منبع ومستقر الخير والفضيلة والحق، فيما الخارج مصدر كل شر وعدوان ورذيلة، ما يجعلها غير قادرة على التعامل المفتوح مع العالم الخارجي.
الرابعة؛ أن العصبيات كلها قاتلة للفرد، ولحرياته وحقوقه ورغباته وهواجسه وروحه، لأنها تطحنه وتهرسه وتدمجه كليًا فيها وفق منطقها الداخلي الذي يقوم على الولاء والطاعة والامتثال. فالاختلاف في الرأي غير مرغوب لأنه “فتنة” تزعزع استقرارنا وأماننا، ما يضع الفرد في حالة من التماهي الكامل بالعصبية، والذوبان الكلي فيها، ليصبحا شيئًا واحدًا؛ هو الطائفة والطائفة هو، هو الإسلام والإسلام هو، هو القبيلة والقبيلة هو، هو القومية والقومية هو، هو الحزب والحزب هو، وهكذا.ينفجر العنف الكامن في أساس تكوين العصبية إذًا داخل العصبية ذاتها أو خارجها. يمكن أن ينفجر في الداخل، ويؤدي إلى تشظي العصبية الكبيرة إلى عصبيات فرعية أو أصغر تتقاتل فيما بينها تحت ذرائع مختلفة؛ اتهامات بالتآمر، التخريب، الخذلان، الخيانة، الإخلال بالعقيدة، تطهير الساحة من المنحرفين والضالين… إلخ. في أواخر نيسان/ أبريل 2016، حصلت اشتباكات مسلّحة بين “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن” في منطقة الغوطة الشرقية، ما أدى إلى مصرع ما يزيد على خمسمائة شخص، من أبناء المنطقة نفسها، وتربطهم علاقات قربى، فضلًا عن كونهم ينتمون إلى النهج ذاته، لتتشظى عصبيتا القرابة والدين بصورة أقرب إلى الملهاة المأساة؛ فقد جاءت هذه الاشتباكات بين “أخوة المنهج”، بالتزامن مع هجوم “قوات النظام” على القطاع الجنوبي للغوطة، وسقوط منطقة المرج بيدها، تلك التي كانت تُعدّ السلة الغذائية للمنطقة. وقد استخدم “أخوة المنهج” القطاع الجنوبي ورقة ضغط على بعضهم بعضًا، إذ انسحب “جيش الإسلام” منه، قبل أيام من هجوم “النظام”، من دون إخبار المدنيين، تاركًا خلفه عشرة آلاف مدني. على العموم، لم نكن نحتاج إلى كثير من الذكاء، لنعرف أن هذه الفصائل الدينية ستتقاتل فيما بينها عاجلًا أم آجلًا.
أذكر أيضًا أن تيارات سياسية سورية معارضة كانت، خلال المدة التي تلت احتلال العراق في نيسان/ أبريل 2003، تحتفي كثيرًا بالجماعات التي كانت تقطع رؤوس الأميركيين، وكانت تطلق عليها اسم “المقاومة العراقية”؛ لم تكن ترى شيئًا سوى عصبيتها المرتكزة على أيديولوجية قومية معادية للإمبريالية الأميركية! ولا ننسى أيضًا المجازر الرفاقية للعصبية البعثية في كل من سورية والعراق، ولا ممارسة العنف والقتل والتعذيب والتمثيل بجثث معارضيها. كما كانت منظمات وميليشيات تابعة للحزب الشيوعي العراقي، مثل “أنصار السلام” و”المقاومة الشعبية”، تسحل الجثث وتعلقها على أعمدة الكهرباء في الموصل وكركوك في آذار/ مارس 1959. العصبية الكوردية لا تختلف هي الأخرى، ولا يمنعها من التشظي إلى عصبيات فرعية متقاتلة سوى وجود الأميركان والروس والأتراك في المنطقة، خاصة مع انشطاراتها السياسية والأيديولوجية والشخصية التي يبدو ألّا حدود لها. لا تكمن مشكلة العنف لدينا في نصوص تراثية هنا أو هناك؛ فالتراث مليء بنصوص متنوعة جدًا. تكمن المشكلة في الثقافة السائدة في كليتها؛ وإلا كيف نفسِّر أن علاقة المثقف “الحداثي”، عمومًا، بمتابعيه لا تختلف عن علاقة رجل الدين بمريديه، فالمثقف هو الآخر يريد منك “السمع والطاعة”. ولا تختلف العلاقة هذه أيضًا عن علاقة شيخ القبيلة بأبنائها، ولا عن علاقة رئيس الحزب بـ “رفاقه”، ولا عن علاقة “الزعيم” السياسي بجمهوره، وهكذا. هذه العصبيات يستفيد منها بعض البشر، فيما تأكل أغلبية أبنائها؛ يستفيد من العصبيات السلطات الحاكمة، تجار السلاح، زعماء الميليشيات، رجال الطوائف، أصحاب رؤوس الأموال، بعض القيادات السياسية… إلخ.العنف معظمه في مجتمعاتنا مصدره العصبيات السائدة، وهو يرتبط بلا شك بمفهومات ونصوص وقراءات وممارسات تقليدية متوارثة، لكن لا يمكن الاكتفاء بهذا التفسير؛ فالبنية السياسية الاقتصادية السائدة في مجتمعاتنا تغذي وتنمي هي الأخرى الثقافة التقليدية، لتعود هذه، بدورها، وترسِّخ البنية السائدة وتحافظ عليها، وهكذا، وكأننا في حلقة مغلقة. الحل، في اعتقادي، يبدأ من السياسة؛ التغيير السياسي الديمقراطي، فهو الشرط اللازم، لكن غير الكافي، لنمو ثقافة أخرى مغايرة.