“الأجساد التي صفت إلى جانب بعضها البعض في الردهات الطويلة المعتمة. لفت بالأكفان البيضاء أو البطانيات القديمة، لا يظهر منها إلا وجوه مزرقّة ورغوة جمدت على زوايا الأفواه، وأحياناً خيط من الدماء يختلط بالزبد. على الجبين أو على الكفن، كتب رقم، أو اسم، أو كلمة “مجهول”.
في كل نقطة طبية على امتداد بلدات الغوطة التي استقبلت الشهداء والمصابين، الحكايات نفسها تتكرر والصور نفسها. وجوه من بقي صامداً من المسعفين الذين لم ينج معظمهم من التأثر بالغازات السامة.
يروون مرة تلو الأخرى، كيف قاموا بخلع الأبواب ودخول المنازل ليجدوا الأطفال نائمين في أسرّتهم بهدوء وسكينة لن يستيقظوا منها أبداً. معظم الأطفال ماتوا وهم يحلمون. قليل منهم وصل للنقاط الطبية وتمكنوا من إسعافه. الرحيل الجماعي للعائلات هو الصورة الأكثر إلحاحاً. الأم والأب وأطفالهما. نقلوا من أسرَتهم إلى قبور جماعية ضمت رفاتهم. في إحدى مقابر زملكا، كان الأب يقف على قبر طويل يبدو بلا نهاية.
هنا دفنت زوجته وطفله. وإلى جانبهما عائلة فلان، وعائلة فلان. وفكرت، إن كان بينه وبين نفسه يحسد العائلات التي ذهبت بجميع أفرادها إلى تلك القبور الضيقة ولم تترك وراءها من يعيش ألم الفقد. ولا تزال أصوات الاشتباكات قريبة جداً وعلى أشُدّها.
ولا أحد من الحاضرين يكترث، وهم منهمكون في الحفر وإهالة التراب على الأحبة. مشرف الدفن يشرح كيف تتلاصق الجثامين التي بلغ تعدادها 140 في هذه المقبرة الصغيرة. صوّر صوًر، يقول. هنا آل فلان، ويقوم بتعداد أسماء أفراد العائلة، وهنا آل فلان.. ونحن ننظر وكأننا يجب أن نرى العائلة ونلقي التحية على الوالدين ونداعب الأطفال، لكننا لا نرى إلا تراباً غير مستوٍ وبضعة أغصان جافة من نبات الآس رميت فوقه كيفما اتُّفق.
في ردهات تجميع الجثامين في كل بلدة، تجمع الأهالي للبحث عن أبنائهم. تدخل سيدة مسنة وهي تتوسل للموجودين أن يرشدوها إلى جثمان أبنائها واخوتها إن كانوا قد استشهدوا. يساعدها الشبان في رفع الغطاء عن وجوه صف الشهداء المجهولين الذين ينتظرون من يتعرف إليهم.
لا أحد يقوى على الجواب. لا أحد أصلا يستوعب كل مايحصل فعلا. هذه بلاد العجائب والصدف التي لا يفترض أن تحصل بشكل متواتر وتنقل إلى اعتياد. إلى جانب إحدى النقاط الطبية وقف شخص وهو يبكي ويلوح بيديه.
قال أنه أنقذ ثلاث سيدات إلى المشفى، في الطريق وبسبب الاستعجال والارتباك دهس شخصا فقتله، وعندما وصل إلى المشفى ركن شاحنته الصغيرة أمامها بانتظار أن يبت بأمره بخصوص الشخص الذي دهس، وبعد دقائق غارت طائرة الميغ واختارت تلك النقطة بالذات التي تقف فيها الشاحنة فأحالتها ركاما!
رزان زيتون عن مجزرة الكيماوي
الذكرى الثامنة لمجزرة كيماوي الغوطة 21/8/2013