يقتل النظام الأسدي وحلفاؤه السوريينَ كل يوم، بكل الوسائل والسبل المتاحة، والمجترحة، المئات من المدنيين بوجه خاص. وكأن قضيته بالأساس مع هؤلاء الذين تمسكوا بالانحياز إلى الحق، والحرية، وإلى التزام المنهج السلمي في مواجهة الطغيان. قتلٌ عبر القصف والقنص، بتدمير المنازل فوقهم، بالتجويع والحصار، بالتهجير والحرمان، والاغتصاب. وأيضًا عبر الاعتقال والتعذيب حتى الموت. يوميًا ثمة ضحايا في كل مكان مستهدف من سورية، وفي كل وقت، منذ ثماني سنوات، لدينا خبر عن شهيد جديد.
تبدو جرائم القتل الجماعي والفردي التي يرتكبها نظام الأسدية، غير قابلة للمحاسبة في المدى المنظور، بدليل الصمت الدولي الذي يستمد منه الجلاد قوة وقدرة، على المضي في جرائمه، مدركًا عدم التعرض للمحاسبة، مع حيازته لدعم سياسي غير محدود، يمنع مجلس الأمن من إحالة ملف الانتهاكات إلى المحاكم والمنظمات المختصة. كما أن القوى المعنية بمراقبة التزام الدول بالقانون الدولي والاتفاقيات الموقعة في سياقه، لا تقوم بواجبها (منظمات وحكومات)، في مراقبة أفعال النظام السوري، وفي تقييم انتهاكاته، وبالطبع عدم اتخاذ اي إجراءات تنظيمية وسياسية، بسبب انتهاك اتفاقية مناهضة التعذيب.
وقعت سورية على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب عام 2004، بعد قرابة عقدين من المراوغة، والتملص من انضمامها إليها، لأنها تدرك جيدًا حجم أفعالها في مجال التعذيب، الذي يتجاوز حدود الانتهاكات العابرة، إلى سلوك همجي منظم، كأسلوب حكم وقهر كارثي يمارسه النظام ضد الضحايا السوريين. وجاء التوقيع ملاحظًا الاعتراض وعدم الالتزام بالمادة 20 من الاتفاقية، وهي التي تمنح لجنة مناهضة التعذيب الحقَّ في تنفيذ زيارات تفتيش طارئة، إلى السجون والمعتقلات السورية. وبذلك يمتنع نظام الأسد عن الالتزام بجوهر الاتفاقية، ويستمر في ممارسة التعذيب، في ظل عدم تمكّن المنظمات الدولية من الاتصال بالضحايا، وأخذ أقوالهم إن أمكن، والاطلاع مباشرة على أحوالهم.
في سورية، يستخدم النظام مقارّ سرية للتحقيق، إضافة إلى الأفرع الأمنية المعروفة، ويجري فيها تعريض المعتقل على نحو منظم ومنهجي لشتى صنوف التعذيب، إما لإرغامه على الإدلاء بأقوال أو شهادات حول آخرين، أو معلومات تحاول أجهزة الأمن الوصول إليها. المعتقل وحده، هو من يعرف صنوف التعذيب التي يمارسها السجان بوحشية مطلقة بحقه. ليست هناك ضوابط، في القيام بها، كما أنه ليست هناك مسؤوليات قانونية عن النتائج المترتبة عن التعذيب، التشريعات القانونية السورية تحمي الجلاد.
في صلب مسلكياته ووظائفه اليومية، يمارس النظام التعذيب ضد المعتقلين والسجناء دون أسباب مباشرة. الهدف منها النيل من كرامة المعتقل، وممارسة العسف والجور بحقه. وليس هناك أي استثناء لمريض أو جريح، ويجري التعذيب داخل المهاجع والزنازين، وفي الممرات والساحات، إضافة إلى غرف التحقيق والتعذيب الخاصة. وما يجري في المعتقلات السورية، خارج عن حدود المتخيل، بالنظر إلى بشاعة التعذيب، واللجوء إلى أساليب بدائية بهيمية، هي مزيج من الحقد، والعنف الأعمى ضد أشخاص مقيدين، معزولين، محرومين، لا اتصال لهم مع ذويهم، ولا محامين، ولا يملكون أي قدرة في الدفاع عن أنفسهم.
يعمد النظام الأسدي إلى الإخفاء القسري للضحايا، حيث لا تُعرف أماكن اعتقالهم، ولا أسماؤهم، ولا ترشح أي معلومة عنهم طوال فترة التغييب. وخلال هذه الفترة، يتعرضون لأهوال شتى تهدد حياتهم، ومن يصمد ويُكتب له البقاء حيًّا، فهو مولود جديد، وإن كان مصابًا في جسده وروحه، فهي جروح لا تندمل، ولا يُمكن نسيانها. وفي جميع أمكنة الاعتقال، دون استثناء، يحدث التعذيب، ويتعرض فيها المعتقل لمحاولات القتل العمد. غير أن أشد الأمكنة قسوة وبشاعة في الإجرام هي المعتقلات التي تديرها المخابرات الجوية أولًا، والعسكرية، وميليشيات ماهر الأسد، وأمن الدولة. يضاف إليها التعذيب في السجون السورية الموصوفة كأخطر أمكنة الاحتجاز في العالم.
التعذيب حتى الموت، واحدة من أكثر جرائم العصر بشاعة وفظاعة، كونه انتهاكًا لحق الحياة، وهو لا يستند إلى أي شرعة قانونية، ولا يتعرض فيها القاتل إلى مساءلة. وكونها جريمة تستهدف أفرادًا لم تشكل حياتهم أو حريتهم خطرًا على المجتمع. في سورية يتعمد النظام قتل الناشطين المدنيين تحت التعذيب، لأنهم يحملون الأفكار والقيم، يرى فيهم مصدر خطر على طغيانه واستبداده وهمجيته، بدل أن يشكلوا مصدر فخر لمستقبل آمن في سورية.
بين صفوف الشهداء تحت التعذيب، مبرزون في مجالات العلوم والمعارف. متميزون في مهنهم ودراستهم، حيث تمتلئ سجون ومعتقلات النظام الأسدي بآلاف المثقفين السوريين: نخب تنمية المجتمع وتطويره. طلبة وأساتذة جامعيون، كتاب ومسرحيون، أطباء وعمّال، معلمون ومهندسون.. وغيرهم.
ملف المعتقلين والمغيبين قسرًا في سجون النظام الأسدي، الذي تشرف فيها المخابرات الإيرانية على أداء الأجهزة الأمنية، يشكل عبئًا حقيقيًا على النظام وعلى حلفائه، ولا يزال يرفض فتح النقاش حوله في جميع مراحل التفاوض التي جرت في جنيف وغيرها، ولم يستطع أي طرف دولي حتى اليوم إجبار النظام على فتح هذا الملف، كبادرة لبناء الثقة، وظل يعتم على مصير ما يقرب من ربع مليون مواطن سوري مُختف قسريًا ومغيب.
وإن كان قد بدأ اليوم بإبلاغ ذوي المعتقلين، عن وفاة أبنائهم في المعتقلات والسجون، فإن ذلك لن يقود إلى طيّ هذا الملف، كما يريد النظام الأسدي، بل يدفع باتجاه القيام بتحرك قانوني وشعبي واسع، وعلى مستوى المنظمات والمؤسسات المعنية، وحيثما وُجد السوري، إلى ثورة جديدة من أجل المعتقلين، وإلى ورفع الدعاوى القضائية، من كل ذوي معتقل وشهيد.
يُذكرني ذلك بما فعله نظام الطاغية القذافي، حينما بدأ -تحت إلحاح دولي وأهلي- بإبلاغ ذوي ضحايا مجزرة سجن أبي سليم (1996) الشهيرة، التي قتل فيها أمن القذافي 1260 معتقلًا سياسيًا داخل مهاجعهم وزنازينهم، ظنًا منه بإقفال الملف بالتعويض المالي، لكن ذلك في الحقيقة قاد إلى ثورة الليبيين ضده، وكانت المجزرة أحد أهم أسباب الانتفاضة الليبية، ولم يكن مقتله بتلك الطريقة التي حدثت، سوى نتيجة لأفعاله ونظامه الأمني.
إن قتل المعتقلين السوريين تحت التعذيب هو سبب كافٍ لإسقاط الأسد ونظامه، ومحاسبته، ولو بعد حين.
لقد أضحت سورية تعبيرًا مرادفًا للتعذيب حتى الموت، وعلى كل ناجٍ أن يكتب شهادته، وأن يقاضي نظام الجلادين الأسدي.