إسماعيل جمال
إسطنبول – “القدس العربي”: 1/12/2020
عقب أسابيع قليلة من حملة المقاطعة الأوسع التي خاضتها السعودية ضد المنتجات التركية في ذروة تصاعد الخلافات بين البلدين، بدأت الرياض بإرسال رسائل للتقارب الاقتصادي مع تركيا وذلك بعد أيام من اتصالات وتصريحات سياسية بعثت الأمل لدى كثيرين بوجود مساع ونوايا حقيقية للتقارب بين البلدين عقب سنوات من الخلافات المتصاعدة حول العديد من الملفات الثنائية والإقليمية المتشعبة.
ومنذ أشهر، بدأت السلطات السعودية لا سيما إدارة الجمارك في التضييق بشكل ممنهج على البضائع التركية، حيث اشتكى تجار وموردون أتراك من حملة تضييق أدت إلى تأخير بضائعهم وتلفها في الموانئ والمعابر السعودية، قبل أن تقود جهات سعودية حملات إلكترونية ضخمة للدعوة إلى مقاطعة المنتجات التركية حيث شاركت في الحملة شخصيات بارزة مقربة من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، قبل أن تبدأ متاجر سعودية بإعلان وقف عرض المنتجات التركية، لكن الحملة سرعان ما بدأت تختفي تدريجياً.وفي تطور هو الأبرز، تداولت وسائل إعلام تركية، الإثنين، وثيقة قالت إنها تشير إلى أن “هيئة المنافسة التركية” منحت تصريحاً لشركة النفط والغاز الطبيعي السعودية (أرامكو) بتأسيس وتشغيل مصنع لإنتاج المُركبات النفطية الخالية من المعادن، وهو تطور فتح الباب واسعاً أمام تعزيز التكهنات حول وجود انفراجة أكبر في العلاقات بين البلدين قد يكون عنوانها الأبرز تعزيز الاستثمارات السعودية في تركيا خلال المرحلة المقبلة.
مصادر تركية قالت لتلفزيون سي إن إن تورك إن الانفراجة الأخيرة في العلاقات السعودية التركية بدأت عقب عقد لقاءات رسمية بين ممثلين عن وزارة التجارة التركية مع نظرائهم السعوديين من أجل الاستفسار عن حملة المقاطعة وأسباب التضييق على المنتجات التركية في المعابر والموانئ السعودية، حيث جاء الرد من مسؤولين سعوديين بالتأكيد على أنه لا يوجد حملة مقاطعة أو تضييق رسمي على الإطلاق، وأن ما يحصل هو “صعوبات استثنائية يجري العمل على تجاوزها”.
ونقلت صحيفة صباح التركية عن وزيرة التجارة التركية روحصار بكجان قولها إن الرياض أكدت عدم وجود مقاطعة رسمية للبضائع التركية، مضيفةً: “نتوقع خطوات ملموسة لحل المشاكل في علاقاتنا التجارية والاقتصادية.. نظراؤنا أبلغونا أنه لا يوجد قرار رسمي، أن هناك بعض المسائل الاستثنائية”.
وتشير سي إن إن تورك إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وخلال الاتصال الهاتفي الأخير مع الملك سلمان بن عبد العزيز أثار هذه القضية، فكان رد الملك السعودي بضرورة العمل على حل هذه المشاكل من خلال إجراء مباحثات تفصيلية على مستوى وزراء الخارجية، وهو ما ترجم في لقاء جمع وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو مع نظيره السعودي قبل أيام.وبالتزامن مع انعقاد قمة العشرين في السعودية نهاية الشهر الماضي، هاتف الملك سلمان الرئيس التركي، وأوضحت الوكالة الرسمية السعودية أنه “تم خلال الاتصال، تنسيق الجهود المبذولة ضمن أعمال قمة العشرين التي استضافتها المملكة”، لافتةً إلى أنه تم بحث العلاقات الثنائية بين البلدين.
وبعد ساعات، أطلق وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان تصريحات “تصالحية” نادرة تجاه تركيا، وقال في لقاء مع وكالة رويترز إن المملكة “لديها علاقات طيبة ورائعة” مع تركيا و”لا توجد بيانات تشير إلى وجود مقاطعة غير رسمية للمنتجات التركية”، لافتاً إلى أن السعودية إلى جانب الإمارات العربية المتحدة ومصر والبحرين تواصل البحث عن سبيل لإنهاء الخلاف مع قطر.وفي إطار التطورات المتسارعة، التقى وزيرا الخارجية التركي والسعودي على هامش اجتماعات وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في النيجر، وكتب الوزير التركي: “الشراكة القوية بين تركيا والمملكة العربية السعودية ليست لصالح البلدين فحسب؛ بل للمنطقة بأكملها”، في خطاب تصالحي هو الأبرز منذ سنوات.وعقب هذه الاتصالات والتطورات، تحدثت مصادر تركية عن أن السعودية بدأت بالفعل بتخفيف إجراءاتها الأخيرة ضد التجارة التركية، حيث لم يعد هناك استهداف مباشر للواردات التركية، كما اختفت دعوات المقاطعة للمنتجات التركية والتي كانت تقودها شخصيات بارزة مقربة من ولي العهد وينفذها إلكترونياً ما يعرف بـ”الذباب الإلكتروني” وهي مجموعات إلكترونية ضخمة يقودها مقربون من بن سلمان.وطوال السنوات الماضية ورغم وصول الخلافات لمراحل خطيرة، حافظ البلدان على “شعرة معاوية” في العلاقات بينهما، حيث لم يتم قطع العلاقات الدبلوماسية أو تخفيضها، وتواصلت العلاقات الاقتصادية رغم دعوات المقاطعة، لكن الأهم هو الإبقاء على قناة اتصال بين الرئيس رجب طيب أردوغان والملك سلمان بن عبد العزيز الذي تجنب المسؤولون ووسائل الإعلام التركية توجيه أي انتقادات له على الإطلاق حيث تم حصر الانتقادات رسمياً وإعلامياً ضد ولي العهد محمد بن سلمان.
وجاءت التطورات الأخيرة في ظل مجموعة من المتغيرات الهامة، أبرزها على الإطلاق هو نتائج الانتخابات الأمريكية التي خلصت إلى فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن على حساب الرئيس الحالي دونالد ترامب الصديق الحميم للسعودية والذي ساعدها في التغطية على تصرفاتها سواء في الأزمة الخليجية وحصار قطر أو الحرب المتواصلة في اليمن وصولاً إلى دعم مناطق النزاع في ليبيا وغيرها، إلى جانب التغطية على جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في تركيا وهي القضية الأخطر التي تمس ولي العهد السعودي محمد بن سلمان شخصياً.وفي محاولة على ما يبدو لتجنب المتاعب التي سيجلبها بايدن لولي العهد السعودي، تتجه المملكة لإبداء ليونة تجاه الكثير من القضايا ومنها محاولة حل الأزمة مع قطر، وإنهاء الحرب في اليمن، وإغلاق ملف خاشقجي، وجميعها ملفات تلعب تركيا فيها دوراً حيوياً ولا يمكن حلها دون وجود علاقات جيدة بين الرياض وأنقرة.
في المقابل، يعتبر فوز بايدن عاملاً مهماً أيضاً في الضغط على تركيا للاتجاه أكثر نحو تغيير سياساتها الخارجية خلال المرحلة المقبلة، والاتجاه أكثر نحو الاستقرار لتجنب الوقوع في فخ العقوبات الأمريكية وبناءً على ذلك أطلق أردوغان، السبت، تصريحات تصالحية غير مسبوقة أكد خلالها على التحالف الاستراتيجي مع واشنطن وعلى أن أوروبا تبقى المكان الطبيعي والخيار الأول لتركيا، وسط التوجه الجديد للرئيس التركي للقيام بإصلاحات سياسية واقتصادية وقضائية وديمقراطية، النجاح فيها يتطلب تغييراً في السياسات الخارجية للحفاظ على علاقات اقتصادية جيدة بما يساهم في تحقيق الأولوية لأردوغان حالياً والمتمثلة في محاصرة الأزمة الاقتصادية، ومن شأن التقارب مع السعودية أن يعطي دفعة قوية لهذا التوجه.هذه العوامل وغيرها ولدت رغبة مشتركة في تحسين العلاقات بين البلدين، إلا أن تشعب ملفات الخلاف وتعقدها يجعل من هذه المهمة غير سهلة على الإطلاق وبحاجة إلى تنازلات كبيرة من الجانبين، وهو ما يجعل نتائج هذه المحاولات غير مضمونة لا سيما وأنها بحاجة إلى تفكيك الكثير من العقد من حصار قطر إلى الموقف التركي من مصر وملف الإخوان المسلمين ووسائل إعلام التنظيم النشيطة في تركيا وملف خاشقجي، إلى جانب العامل المعطل الأكبر وهو مدى إمكانية تحييد الدور الإماراتي السلبي في هذا الإطار.