أمس أنهى بشار الأسد عشرينيته في منصب الرئاسة، في ذلك اليوم “قبل عشرين عاماً” انتهت ست سنوات ونصف من كونه رئيساً منتظراً. لقد أدى “القسَم الدستوري”، ولم يعد ذاك “الرئيس تحت التمرين” كما كان يراه السوريون، وبتسلمه الرئاسة صار في وسعه تبديد التكهنات حول شخصه وتوجهاته. لم يعد ذلك “الأمل” الغامض وفق لقب أُطلق عليه بعد مقتل أخيه باسل، لقد أصبح “الأمل” رئيساً حاضراً ولن يكون بعدُ في عهدة الغيب أو المستقبل.بين وفاته وتسلم وريثه، كان شبح الأب يحكم من خلال الترتيبات السريعة المُعَدة سلفاً للتوريث، الترتيبات التي سارت بسلاسة قل نظيرها بسبب تسليم الداخل والخارج بها، تسليم لم يخلُ على الجانبين من عشم بالرئيس الجديد الشاب. سيغادر ذلك الشبح منذ لحظة التنصيب مطمئناً إلى تركته، مع لقب جديد هو “القائد الخالد”، لكنه سيعود إلى التداول كلما استدعت الحاجة. لقد قدّم الوريث مواربةً لحظة التنصيب كعهد يقطع مع أبيه، أو كان ثمة كثرٌ يودون ذلك، أو لأن من مستلزمات تقديم الوريث نفسه أن يتمايز عن أبيه بخطابه ووعوده من دون أن يكون جاداً كما يشتهي الآخرون، ولعل الأخير احتمال أقرب إلى الواقع.بعد وقت قصير، سُمّي اعتباطاً ربيع دمشق، سيخرج بشار بالقول: لقد فهمتموني خطأ. لا ندري ما إذا كان حتى الآن معجباً بقوله: دعونا نعرّف الربيع أولاً! المهم أن وأد حراك معارض محدود جداً آنذاك استدعى تحليلات من نوع اعتراض الحرس القديم على التوجهات الإصلاحية للرئيس الشاب، وفق ذلك الفهم كان حافظ الأسد يعرقل مسيرة ابنه “الطائشة” نحو التغيير، وهو فهم لم يكن ليتوقف عند أقوال المعنيّ نفسه وإفصاحه عما يغايره. لو شئنا استخدام لغة باردة محايدة لجاز لنا القول أن بشار الأسد في السنوات الأولى لحكمه كان “ضحية” التعنيف، فقد قُوِّل ما لم يقله، وعُلِّق عليه من الأوهام ما لا يطيقه أو كان عازماً على الاقتراب من تحقيقه. مساهمته على هذا الصعيد أتت ببيع الأوهام للراغبين فيها، وخطؤه أنه لم يميز بين داخل وخارج فاستسهل قطع الوعود لجهات خارجية أخذتها على محمل الجد. قائمة الوعود الكاذبة تطول، ولم ينقلب منها عليه سوى وعده أكثر من جهة خارجية بحماية الرئيس رفيق الحريري، والإيعاز بتخفيف حمايته بما يتناقض مع تلك الوعود. لكن في تلك الأثناء كان الوجه الحقيقي سافراً لمن يريد مشاهدته، وفيه من الصلابة والإصرار ما يكفي. لقد قضى بشار على الحراك المعارض المحدود بقسوة أقل من قسوة أبيه أيام الثمانينات، لأن قمع الحراك لم يكن يتطلب أكثر من ذلك. في لبنان، أبدى صلابة وعناداً في التمديد لإميل لحود في رئاسة الجمهورية، رغم قدرته على اختيار بديل لا يقل ولاء، وكما هو معلوم وصلت تداعيات التمديد إلى اغتيال الحريري. أخطأ بشار في فهم اللحظة الأمريكية التي لم تكن لتحتمل استعراض قوته لبنانياً وتسهيل عمل الجهاديين في العراق معاً، فدفع الثمن بخروج قواته من لبنان، إلا أن هذا لم يثنه عن مواصلة مسلسل الاغتيالات، وكانت رسالته منذ ذلك الوقت هي تجاوز القتل بمزيد من القتل، مستقوياً أكثر فأكثر بانضوائه تحت حماية طهران وحزب الله وقدرتهما على تهديد استقرار المنطقة.أسست السنوات الخمس الأولى لحكم بشار، وخلاصتها تواضع الدور الإقليمي المستقل، مع الاحتفاظ بالقبضة الحديدية على الداخل. انعدمت داخلياً وخارجياً الرهانات السابقة على رئيس شاب مدني يقود مسيرة التحديث، ولم تنعكس الخسارة الخارجية انفتاحاً على الداخل، بل على العكس صارت القبضة أكثر تشدداً، خاصة إزاء منتقدي المحور الإيراني. منذ ذلك الحين إذا كان من مبادرات خارجية معتبرة تجاهه فقد كانت تهدف إلى إخراجه من الهيمنة الإيرانية، ويجوز القول أن المطالب الخارجية تواضعت من الأمل بتجاوز حقبة حافظ الأسد إلى محاولة استعادتها. الحديث عن حسابات خاطئة في تلك السنوات فيه استئناف للنظر إلى بشار على غير ما هو عليه، فقد كانت أمامه فرصة خمس سنوات لاحقة لتغيير سياساته لو كان يراها خاطئة في الأصل.في الواقع قلما حظي مسؤول باستعداد للتسامح وتبرئته من سياساته على النحو الذي حظي به بشار، بدءاً من عقد آمال التغيير عليه، وصولاً إلى محاولة تبرئة شخصه في بداية الثورة من الوحشية التي قوبلت بها، ولو بإلقاء مسؤوليتها على شقيقه ماهر. في المقابل، لم يقصّر بشار في التأكيد على مسؤوليته عن اتخاذ القرارات، بما فيها تصريحه الواضح بمسؤوليته الشخصية عن التعامل مع الثورة، واستهزائه بأولئك الذين يبرؤونه منها. لعل ما يروقه ويرضيه حقاً هو اعتراف واضح باحتكاره القرار، حتى إذا أتى على شاكلة اعتراف رجله في لبنان ميشال سماحة بقوله “هيك بشار بدو” في سياق حديثه عن تفجيرات يُحضّر لتنفيذها.الصورة الرائجة عن بشار اليوم تُختزل بالواقع تحت وصاية مزدوجة، وبفاقد القرار في ما يخص معظم القضايا السيادية. هذه الصورة، التي تحتمل بعض الصواب لا كله، تستكمل بدورها صورة الوريث قليل الكفاءة، أو نموذج الوريث الذي يبدد التركة بحماقاته، وأولى الحماقات أنه يتصرف ضد نفسه ولا يستغرب حينها أن يكون مؤذياً للآخرين. ربما ينبغي التذكير بأن صورة الوريث الطائش، شأنها شأن الرئيس الشاب، لم تعد لائقة بشخص في منتصف الخمسينات من عمره. في إطلالاته الإعلامية لم يسفر بشار عن أي إحساس بالندم جراء ما أوقعه بالسوريين، لم يكن مكابراً في ما يقوله بل ظهر دائماً مقتنعاً بصواب سياساته، بل بصواب ما يسميه “الأخطاء الفردية” لمنفّذيها من رجالاته. ولا يُستبعد أن يكون في قرارة نفسه مقتنعاً بأنه انتهج أفضل السبل لخدمة مصالحه، بل ربما يراهن على الوقت ليمتص سطوة حلفائه عليه ويتخلص منها تدريجياً. لا نعلم ما إذا كان بشار قد توقف عند رمزية إكماله عقدين في السلطة، أو تأمل فيهما محاولاً استخلاص عبرة ما، أو ربما وقف أمام المرآة مهنئاً نفسه بكل ما فعل، وربما يرى محقاً في مجرد بقائه ما يستحق الاحتفال والتهنئة.