تضيف مجزرة الكيماوي الجديدة التي ارتكبها النظام الأسدي بحق المدنيين المحاصرين في مدينة دوما جريمة جديدة إلى سجل هذا النظام وحلفائه الحافل بالمجازر المرتكبة بحق غالبية السوريين.
وإذا كانت الصور الفظيعة لأطفال دوما الصرعى والمصابين بحالات اختناق قد أثارت سخط القوى الحيّة في العالم كله، إلا أنها تثير أكثر من سؤال بشأن المعنى والخصوصية في قتل سوريين، محاصرين وجوعى، مدنيين وعزّل، بالأسلحة الكيماوية، وتكشف مستوى الانحطاط البشري الذي وصل إليه نظام الأسد الأقلوي، المدعوم من نظامي فلاديمير بوتين في روسيا والملالي في إيران، ومدى انحدار هذه الأنظمة الديكتاتورية إلى نمط مهين من التوحش واللاإنسانية، وتطرح أسئلة عن الفكر السياسي المنحط والمهيمن فيها. فكر الذين قادوا الحرب البشعة والبربرية إلى جانب نظام طائفي فاشي، وأوصلوها إلى محطةٍ قصوى من العذاب الإنساني للسوريين.
وعلى الرغم من كل التحذيرات الدولية والخطوط الحمراء التي أطلقها الرئيسان، الأميركي دونالد ترامب والفرنسي إيمانويل ماكرون، إلا أن كلا من النظام الأسدي والبوتيني وملالي طهران أراد من الجريمة الجديدة ضد الإنسانية توجيه رسائل متعددة الاتجاهات، وخصوصا إلى دول الغرب الأوروبي، بعد التهديد والتلويح الأميركي والفرنسي بشن ضربات عسكرية بشكل أحادي على النظام، في حال توفر أدلة دامغة على استخدامه الكيماوي مجدّداً.
وليس توقيت توجيه هذا الهجوم مصادفة، بل يتزامن مع مرور الذكرى الأولى لمجزرة خان شيخون التي ارتكبها النظام في الرابع من إبريل/ نيسان 2017، واستجلبت رداً اميركياً محدوداً جداً في السابع من الشهر نفسه، بقصف مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الطائرات التي قامت بالهجوم الكيماوي.
ويبدو أن الروس وملالي طهران والنظام أرادوا اختبار مدى جدية التهديدات الغربية، وخصوصا الأميركية والفرنسية، ومعرفة حجم ومستوى الرد الذي يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة أو فرنسا، وبالتالي فإن الغاية من هذه الجريمة الجديدة إهانة الغرب، والحطّ من هيبة كل من الولايات المتحدة وفرنسا بشكل خاص، والغرب بشكل عام، في حال عدم القيام بالرد الذي يتناسب مع هول هذه الجريمة وبشاعتها.
أراد النظام البوتيني ونظام الملالي الإيراني ونظام الأسد الإجرامي أيضاً كسر عزيمة الصمود لدى أهل دوما والمدافعين عنها، ووضعهم أمام الخيار الذي يحاولون فرضه عليهم بالقوة الغاشمة، القتل أو التهجير القسري، وتعمدوا استخدام السلاح الكيماوي، لأن مليشياتهم لا تستطيع اقتحام تحصينات “جيش الإسلام” في دوما، ويصعب عليها اختراقها من دون أن تدفع تكلفة بشرية باهظة، ولذلك يظنون أن أسهل الطرق وأقصرها لإرغام “جيش الإسلام” على القبول بشروطهم، خصوصا بعد وضعه تحت ضغط الكلفة البشرية الباهظة على حساب أرواح المدنيين من الأطفال والنساء والرجال، المحاصرين والمجوّعين، والذي يريد النظام وحلفاؤه تحويلهم إلى مهجرين أو موتى داخل الأقبية والسراديب المظلمة.
وتوضح جريمة الكيماوي الجديدة أن نظام بوتين لم يحفظ وعوده التي قطعها مع “جيش الإسلام”، القاضية بوقف إطلاق النار طوال فترة التفاوض، بل انتهز فشل المفاوضات، لكي يعطي الضوء الأخضر للنظام الأسدي ليرتكب جريمته، لكن ذلك وحده لا يفسر السبب، كون الجريمة تشكل تحدّيا لكل دول الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، وستشكل إهانة لهما، إذا أفلت نظام الأسد من العقاب هذه المرة أيضاً.
ومعلوم أن الهجوم بالأسلحة الكيماوية على دوما يستلزم إجراءات لوجستية مسبقة، ويستلزم كذلك قراراً سياسياَ، اتخذه على الأرجح نظام بوتين بالتنسيق مع نظام الملالي الإيراني، خصوصا أنه جاء في وقت أعلن فيه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قراره الانسحاب من سورية، ربما بعد ستة أشهر أو سنة، ولذلك جاءت الجريمة لتكون إحراجاً للإدارة الأميركية وللرئيس ترامب شخصياً، حيث يظن ساسة النظام البوتيني أن ترامب في موقع يعجز فيه عن القيام بأي تحرّك، لذلك أرادوا الانتقام من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الإدارة الأميركية، وطاولت مقرّبين من الرئيس الروسي، وخصوصا صهره.
يضع ذلك كله الإدارة الأميركية أمام موقف حرج، يستوجب عليها الحفاظ على هيبتها، وهو أمر عكسته تغريدات الرئيس ترامب التي حمّل فيها النظام البوتيني ونظام الملالي الإيراني مسؤولية الهجوم الكيماوي على دوما , وتوعد بأن يكون الثمن باهظاً، وبالتالي يبرز التساؤل بشأن حجم التحرك الأميركي حيال نظام الأسد، وهل سيكون الرد مماثلاً للرد على مجزرة الكيماوي في خان شيخون، أم سيكون أقسى وأقوى، ويترك أثراً قوياً على نظام الأسد الإجرامي؟.
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي يحاول أن يجد لفرنسا موطئ قدم في سورية، فقد اختار الانفصاليين فيها، ظناً منه أن ذلك سيعيد أمجاد الإمبريالية الفرنسية الغابرة، لكن الأجدى بالنسبة إليه أن يحترم تعهداته وتهديداته بضرب النظام إذا قام بهجمات “كيماوية مميتة”، وكأن الهجمات المميتة بالأسلحة الأخرى، كالبراميل المتفجرة والصواريخ وسواهما لا تعنيه، وإن حصدت أرواح مئات آلاف السوريين. غير أن مجزرة الكيماوي في دوما وضعته أيضاً أمام حرج واختبار قويين، فإما أن يتحرّك أو أن يضع رأسه في الرمال كالنعامة، ويغض النظر عما قاله في أكثر من مناسبة بلغة تهديد ووعيد مشروطة، بينما يكشف واقع الحال أنه سينتظر موقف الإدارة الأميركية، كي يبني موقفه بناء على موقفها، بوصفه عاجزا عن التحرك بمفرده، بعكس ما ادّعى.
وفي مطلق الأحوال، وضعت مجزرة الكيماوي في دوما الغرب عموماً، والولايات المتحدة وفرنسا خصوصاً، أمام تحدي الرد عليها، أو الاستمرار في سياسة الإفلات من العقاب التي دشنها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، حين اتبع نهجاً من المقايضة، قضى بتسليم النظام المجرم أسلحته الكيماوية، مقابل الإفلات من العقاب على الجريمة التي ارتكبها في مجزرة غوطتي دمشق في الحادي والعشرين من شهر أغسطس/ آب 2015، الأمر الذي جعل النظام يتمادى في جرائمه ضد غالبية السوريين.