العقيد عبد الجبار عكيدي /المدن
اتّسمت العلاقة الناظمة بين قوات سورية الديمقراطية ( قسد ) وبين الأطراف الأخرى النافذة في الشأن السوري، بجملة من السمات، وكذلك تأثرت بجملة من العوامل السياسية والميدانية.فمنذ أن قامت الحكومة التركية بإبداء استنكارها بل سخطها الشديد تجاه نظام الأسد الأب عام 1998 على إيوائه لحزب العمال الكردستاني ورعايته لنشاطاته ومعسكراته، إلى درجة التهديد المباشر الذي أدرك معه نظام الأسد حينها أن القدرة على المراوغة وسياسة ابتزاز دول الجوار لم تعد مجدية، إذ سرعان ما استجاب لكافة المطالب التركية، بما في ذلك طرد عبد الله أوجلان من سوريا، ثم التعاون الاستخباراتي مع أنقره على تسليمه، وصولاً إلى اتفاق أضنة الذي يتيح للحكومة التركية التوغل داخل الأراضي السورية لمسافة 8 كم، لتعقّب عناصر حزب العمال الكردستاني، فضلاً عن قبول الأسد الالتزام بعدم إثارة موضوع لواء اسكندرون نهائياً.
وقد تزامنت وراثة بشار الأسد للحكم من أبيه وراثته أيضاً لرعاية حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني) الذي تأسس عام 2003، واتخذ من مناطق شمال سوريا مرتعاً لنشاطاته، واتسم نشاطه بحالة غير معلنة، ليس بسبب حظره أو ملاحقته أمنياً من جانب النظام بل بسبب التفاهمات الأمنية بين أنقرة ودمشق والتي تقضي بعدم السماح للحزب المذكور القيام بأي نشاط سياسي أو ميداني.وبانطلاقة الثورة الشعبية في آذار/مارس 2011، وخروج قسم كبير من الجغرافيا السورية عن سلطة الأسد، اتخذت السلطات الأسدية من حزب الاتحاد الديمقراطي حليفاً ونصيراً لها بالتصدي لثورة السوريين، وقد تولّى الحزب المذكور مهمة إخماد المظاهرات المناهضة للنظام في المناطق التي يتواجد بها وخاصة الكردية منها، إذ قام باعتقال العديد من الناشطين الأكراد وإغلاق العديد من مكاتب الأحزاب الكردية في القامشلي والحسكة وعامودا، فكافأه نظام الأسد بتزويده بالسلاح وتركه يتموضع عسكرياً في المناطق التي يتواجد بها.في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2015 تشكلت قوات سوريا الديمقراطية، كجناح عسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، وذلك بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية ضمن مشروع ما يسمى بمحاربة داعش، وبموجب هذا التنسيق باتت قسد تحظى بدعم عسكري هائل من التحالف الدولي بقيادة واشنطن،وقد مكّنها هذا الدعم العسكري من التمدّد وبسط النفوذ حتى باتت بحلول العام 2019 تسيطر على مساحات واسعة من الجغرافيا السوريا، ولعل الأهم هو سيطرتها على مناطق شرق سوريا، وبسط نفوذها الكامل على النفط السوري فضلاً عن أساسيات الاقتصاد السوري كالقطن والحبوب، الأمر الذي أتاح لها ابتعاداً مؤقتاً عن نظام الأسد والتطلع إلى انتزاع اعتراف من سلطة دمشق بإدارة ذاتية مستقلة على غرار ما فعله أكراد شمال العراق عقب حرب الكويت عام 1991، وعلى الرغم من المفاوضات المستمرة بين قسد والنظام، واللقاءات التي لم تنقطع بين الطرفين، إلّا أن نظام الأسد، وبدفع من إيران وروسيا لم يستجب لمطالب قسد، وظل ينظر إليها كولد عاق ناكر للجميل، بل أحيانا لم يتردد النظام بوصفها أداةً عميلة للأميركيين.لقد جسّد ربيع عام 2019 منعطفاً هاماً لدى قسد، وذلك بتأثير عاملين اثنين:
يتمثل الأول بنهاية الحرب على تنظيم داعش، وإعلان إدارة ترامب نيتها الانسحاب العسكري من سوريا، الأمر الذي جعل قسد تشعر بانزياح المظلة التي كانت تحميها، وشعورها المفاجئ بحالة من اليتم العسكري والسياسي معاً، ويتمثل الأمر الثاني بعدم قدرتها على تحقيق علاقة مع واشنطن تتجاوز الإطار العسكري، إذ كانت واشنطن على الدوام تؤكّد أن علاقتها بقسد هي علاقة عسكرية مؤطرة بالتنسيق المؤقت للحرب على داعش فقط.
وقد دفع هذا المنعطف الحاصل في سيرورة الصراع في سوريا، قسد إلى إعادة التفكير من جديد للبحث عن مظلات عسكرية وسياسية أخرى تستظل بها، وذلك تحت تأثير عاملين ضاغطين: الأول هو استهدافها الدائم من جانب القوات التركية، باعتبارها خصماً مباشراً، بل إن وجودها على الحدود الجنوبية لتركيا يُعدّ عاملاً مُهدّداً للأمن القومي التركي وفقاً لأنقرة، والعامل الثاني هو أن قسد لا تحمل مشروعاً وطنياً سورياً، كما لا تحظى بحاضنة شعبية سورية، وإنما تستمد قوتها وشرعية وجودها من القوة التي بحوزتها جرّاء تحالفها وتلقيها الدعم الهائل من واشنطن.
لعل المستجدّات السياسية والعسكرية الدولية التي برزت بعد 24 شباط/فبراير، بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، قد أفرزت حالة جديدة من موازين القوى بين الدول صاحبة النفوذ في الشأن السوري، ولعل أولى علامات هذه المفرزات هي حيازة تركيا على أوراق قوّة جديدة تجعلها في موقف أقوى أمام أهم منافسيها، وتحديداً أميركا وروسيا، وكما تتيح أوراق القوة الجديدة لتركيا توجيه البوصلة من جديد نحو استهداف خصمها اللدود قسد، وذلك ضمن حسابات عسكرية مستجدة لم تكن ناجزة من قبل.
وقد بدا واضحاً أن المعارضة الروسية للعملية العسكرية التركية المرتقبة لم تعد معارضةً صارخة كما كانت من قبل، ولعل رغبة روسيا وحرصها على عدم استعداء تركيا في هذا الظرف الحرج هو ما دفع وزير خارجيتها سيرغي لافروف إلى التصريح أثناء زيارته لأنقرة في نهاية الأسبوع الماضي بأن روسيا تتفهم مخاوف تركيا، ما يدفع إلى الظن بأن دفاع موسكو عن قسد خاضع للمساومة والمقايضة على الأقل، أما بالنسبة إلى واشنطن فإن رفضها المتكرر للعملية العسكرية التركية لم يكن مبطّناً بردة فعل شديدة أو تهديداً عكسياً لأنقرة، بل ربما تضمن صيغة الرفض مع تفهم لمصالح تركيا التي تحرص واشنطن أكثر من أي وقت مضى على مداراتها.
ولعله من الطبيعي أن كل هذه المستجدّات لم تكن غائبة عن قيادات قسد التي تراقب هذه التحولات بقلق شديد، دفعها بقوّة إلى اتخاذ خطوات سريعة، ربما بدأتها بالجانب الإعلامي الذي قد يكون امتدّ للتمهيد لخطوات أخرى، ذلك أن ما صرّح به القائد العسكري لقوات قسد مظلوم عبدي نهاية الأسبوع الماضي، مُستنجداً بقوات الأسد للتصدي للعملية التركية العسكرية إنما يؤكّد أن الاستدارة النوعية الجديدة في السياسة الدولية قد أعادت قسد إلى نقطة البداية، بل جعلتها تشعر بالإفلاس السياسي الذي يجبرها إلى العودة للاستغاثة بمن لا يستطيع إغاثة نفسه، بل هو يحكم تحت وصاية مباشرة من الروس والإيرانيين.
وقد عزز هذا الشعور بالإفلاس تصريح القيادي البارز في مسد رياض ضرار والذي ينطوي على التفافة كبيرة بحمولة مكثفة من النفاق والمحاباة حين أكد منذ يومين أن قوات قسد ستقاتل مع جيش النظام، وأنها ستكون جزءا من جيش النظام في المستقبل، في حين أن ردّة فعل نظام الأسد على هذا الاستجداء القسدي لم تحمل الكثير من التطمينات لقسد، فهل سينتهي الأمر بعودة حزب الاتحاد الديمقراطي إلى العمل شبه السري تحت وصاية ومراقبة المخابرات الأسدية كما كان قبل 2011؟